تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قلبه الأقوال المختلفة , والاحتمالات المتعددة , والتقديرات المستبعدة. فإن علت همته جعل مذهبه عرضة للأحاديث النبوية , وخدمه بها , وجعله أصلا محكما يرد إليه متشابهها , فما وافقه منها قبله , وما خالفه تكلف له وجوها بالرد غير الجميل , فما أتعبه من شقي , وما أقل فائدته!

ومما يفسد قول المحددين بقلتين أن النبي نهى عن البول في الماء الدائم ثم يغتسل البائل فيه بعد البول. هكذا لفظ الصحيحين: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه " وأنتم تجوزون أن يغتسل في ماء دائم قدر القلتين بعدما بال فيه. وهذا خلاف صريح للحديث! فإن منعتم الغسل فيه نقضتم أصلكم , وإن جوزتموه خالفتم الحديث. فإن جوزتم البول والغسل خالفتم الحديث من الوجهين جميعا.

ولا يقال: فهذا بعينه وارد عليكم , لأنه إذا بال في الماء اليسير ولم يتغير جوزتم له الغسل فيه , لأنا لم نعلل النهي بالتنجيس , وإنما عللناه بإفضائه إلى التنجيس , كما تقدم , فلا يرد علينا هذا. وأما إذا كان الماء كثيرا فبال في ناحية ثم اغتسل في ناحية أخرى لم يصل إليها البول , فلا يدخل في الحديث , لأنه لم يغتسل في الماء الذي بال فيه , وإلا لزم إذا بال في ناحية من البحر أن لا يغتسل فيه أبدا , وهو فاسد. وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغسل فيه بعد البول , لما يفضي إليه من إصابة البول له.

ونظير هذا نهيه أن يبول الرجل في مستحمه. وذلك لما يفضي إليه من تطاير رشاش الماء الذي يصيب البول , فيقع في الوسواس , كما في الحديث " فإن عامة الوسواس منه " حتى لو كان المكان مبلطا لا يستقر فيه البول , بل يذهب مع الماء لم يكره ذلك عند جمهور الفقهاء.

ونظير هذا منع البائل أن يستجمر أو يستنجي موضع بوله , لما يفضي إليه من التلوث بالبول.

ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه الإخبار عن نجاسة الماء الدائم بالبول , فلا يجوز تعليل كلامه بعلة عامة تتناول ما لم ينه عنه. والذي يدل على ذلك: أنه قيل له في بئر بضاعة " أنتوضأ منها وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحوم الكلاب وعذر الناس؟ " فقال: " الماء طهور لا ينجسه شيء ". فهذا نص صحيح صريح على أن الماء لا ينجس بملاقاة النجاسة , مع كونه واقفا , فإن بئر بضاعة كانت واقفة , ولم يكن على عهده بالمدينة ماء جار أصلا. فلا يجوز تحريم ما أباحه وفعله , قياسا على ما نهى عنه , ويعارض أحدهما بالآخر , بل يستعمل هذا وهذا , هذا في موضعه , وهذا في موضعه , ولا تضرب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض. فوضوءه من بئر بضاعة وحالها ما ذكروه له دليل على أن الماء لا يتنجس بوقوع النجاسة فيه , ما لم يتغير. ونهيه عن الغسل في الماء الدائم بعد البول فيه , لما ذكرنا من إفضائه إلى تلوثه بالبول , كما ذكرنا عنه التعليل بنظيره , فاستعملنا السنن على وجوهها. وهذا أولى من حمل حديث بئر بضاعة على أنه كان أكثر من قلتين , لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلل بذلك , ولا أشار إليه , ولا دل كلامه عليه بوجه. وإنما علل بطهورية الماء , وهذه علة مطردة في كل ماء. قل أو كثر , ولا يرد المتغير , لأن طهور النجاسة فيه يدل على تنجسه بها , فلا يدخل في الحديث , على أنه محل وفاق فلا يناقص به.

وأيضا: فلو أراد صلى الله عليه وسلم النهي عن استعمال الماء الدائم اليسير إذا وقعت فيه أي نجاسة كانت لأتى بلفظ يدل عليه. ونهيه عن الغسل فيه بعد البول لا يدل على مقدار ولا تنجيس , فلا يحمل ما لا يحتمله.

ثم إن كل من قدر الماء المتنجس بقدر خالف ظاهر الحديث. فأصحاب الحركة خالفوه , بأن قدروه بما لا يتحرك طرفاه , وأصحاب النزح خصوه بما لا يمكن نزحه , وأصحاب القلتين خصوه بمقدار القلتين. وأسعد الناس بالحديث من حمله على ظاهره ولم يخصه ولم يقيده , بل إن كان تواتر الأبوال فيه يفضي إلى إفساده منع من جوازها , وإلا منع من اغتساله في موضع بوله كالبحر , ولم يمنع من بوله في مكان واغتساله في غيره.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير