ولكن النظر في العلل واستخراجها ومعرفتها هو صفة جهابذة هذا الفن. وهذا واضح لمن نظر في الجزء بتجرد ولا يخفى إلا على العميان الذين قلدوا دينهم الرجال سواء جاءوا بالحق أو بالباطل، فقط ينظرون إلى اسم الكتاب واسم مؤلفه والترجيح الذي رجحه ثم لا يلتفتون إلى باقي الكتاب. فهذا هو حال كثير من المنتسبين إلى طلب العلم والله المستعان. فنقول إلى هؤلاء:
إنا نرى التقليد داء قاتلا حجب العقول عن الطريق الأرشد
جعل الطريق على المقلد حالكا فترى المقلد تائها لايهتدي
لذا بدأنا في اجتثاث جذوره من كل قلب خائف متردد
ولسوف ندمل داءه وجراحه بمراهم الوحي الشريف المرشد
لذلك عقدنا العزم على كتابة هذا الجزء ردا على هذه الرسالة ونصحا للامة وإشفاقا عليها أن ترتكس في مستنقع الإرجاء والتجهم الآسن.
وليس المقصد من كتابة هذا الجزء بسط مسألة- حجية الموقوفات من الآثار- أو ما شابهها من المسائل. وانما هو جزء حديثي يختص بالبحث عن هذا الأثر من الناحية الإسنادية. وأما الرد على هذه المقولة التي لم يفهم هؤلاء القوم مراد قائلها- إن صحت- والتي طاروا بها كل مطار فله مقام آخر.
وستعلم إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار
فالله تعالى أسأل أن أكون قد وفقت في بيان هذه المسألة والإحاطة بجوانبها وأن يتقبل مني هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفعني به والمسلمين وأن ينصر به الحق وأهله، إنه على ما يشاء قدير، والحمد لله رب العالمين وصلي اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين صلاةً دائمةً إلى يوم الدين.
أعده الفقير إلى رحمة ربه المنان
أبو مروان السوداني
-كان الله له- آمين
11 جمادى الآخر 1414 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر الطرق التي جمعها علي الحلبي في رسالته والكلام عليها.
الطريق الأولى والثانية:
قال ابن جرير الطبري: حدثنا هناد حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبى عن سفيان عن معمر بن راشد عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى: ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون. قال هي به كفر، وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله.
قلت: هذا إسناد صحيح. والظاهر من هذه الطريق أن الكلام كله من قول ابن عباس رحمه الله. وقد اغتر بها الكثير لصحة الإسناد، وخفي عليهم الإدراج الذي بينته رواية عبد الرزاق الآتية:
قال الإمام عبد الرزاق: اخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله ( .. فأولئك هم الكافرون) قال: هي به كفر.
قال ابن طاوس: وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله.
فثبت من هذه الرواية الصحيحة التصريح بأن قوله: وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله مدرجة من قول ابن طاوس لا من كلام ابن عباس كما قد يفهم من ظاهر رواية - سفيان عن معمر -
قال الحافظ الذهبي: المدرج هو ألفاظ تقع من بعض الرواة متصلة بالمتن لا يبين للسامع إلا أنها من صلب الحديث ويدل دليل علي أنها من لفظ راوي، يأتي الحديث من بعض الطرق بعبارة تفصل هذا من هذا.
وما قرره الذهبي في هذه القاعدة واضح في أثرنا هذا وهو خير مثال لها. فطريق سفيان عن معمر توهم السامع أن الكلام كله لعبد الله بن عباس ولكن دل دليل آخر وهو طريق عبد الرزاق عن معمر أن هناك ألفاظ مدرجة وهي قوله قال ابن طاوس: وليس كمن كفر بالله وملائكته و ... فجاءت هذه العبارة تفصل هذا من هذا.
أضف إلى ذلك أن عبد الرزاق أثبت وأتقن الناس في معمر، بل القول قوله عند الاختلاف.
قال يعقوب بن شيبة: (عبد الرزاق أثبت في معمر جيد الإتقان).
وقال ابن عسكر: سمعت أحمد بن حنبل يقول: (إذا اختلف أصحاب معمر فالحديث لعبد الرزاق).
فكان على علي الحلبي أن يتنبه لذلك فإنه واضح لا يخفى على طلبة هذا الفن. فإن صحة الخبر لا تتوقف على عدالة الرواة وضبطهم، إنما تعرف بجمع الطرق والروايات ثم النظر في العلل مثل الاختلاف في الوصل والقطع والرفع والوقف أو دخول حديث في حديث إلي غير ذلك.
يقول الحافظ العراقي: وتدرك العلة بتفرد الراوي ومخالفته غيره مع قرائن تنضم إلي ذلك يهتدي الجهبذ- أي الناقد- بذلك إلي اطلاعه على إرسال في الموصول أو وقف في المرفوع أو دخول حديث في حديث أو وهم واهم أو غير ذلك.
¥