ثم قال: "ولا خفاء أن مثال النعل الشريف تصدر بإضافته إلى ذي الصدر، وخص لذلك برفعة الشأن والقدر، فعلاً على البدر .. وما المثال المكرم إلا وسيلة للقدم التي خص الله بأكمل الأوصاف صاحبها صلى الله عليه وسلم:
وما حب النعال شغفن قلبي ... ولكن حب من لبس النعالا
فأكرم بها من نعال، زكت بأطيب الفعال، وشرفت بالمختار وسمت، واتسمت من الفضائل بما اتسمت، وحاكاها المثال بمحاسنه التي ارتسمت .. ".
ثم ختم فصل "النعال" بصورة لذلك "المثال" المزعوم، دبجها أبياتاً من الشعر قال فيها:
على رأس هذا الكون نعل محمد ... علت فجميع الخلق تحت ظلاله
لدى الطور موسى نودي اخلع وأحمد ... على القرب لم يؤمر بخلع نعاله
مثال حكى نعلاً لأشرف مرسل ... تمنت مقام الترب منه الفراقد
ضرائرها الشبع السموات كلها ... غيارى وتيجان الملوك حواسد
مثال لنعل المصطفى ما له مثل ... لروحي به راح لعيني به كحل
فأكرم به تمثال نعل كريمة ... لها كل رأس ود لو أنه رجل
ولما رأيت الدهر قد حارب الورى ... جعلت لنفسي نعل سيده حصناً
تحصنت منه في بديع مثالها ... بسور منيع نلت في ظله الأمنا
إني خدمت مثال نعل المصطفى ... لأعيش في الدارين تحت ظلالها
سعد ابن مسعود بخدمة نعله ... وأنا السعيد بخدمتي لمثالها.
((((صورة مثال النعل)))
قلت: والأمر كما ترى، دعوة صريحة إلى الشرك وعبادة الأصنام والتماثيل، فقد أبى هذا المخالف أن تقتصر دعوته إلى عبادة المخلوقين، على الدعاء والاستغاثة والرغبة والرجاء، وعلى اتخاذ قبورهم أوثاناً وقصدها بالحج والتعظيم، فأضاف إليها هذا الخيال المخترع في الذهن البليد،، فدعا الناس إلى عبادته من دون الله، إحياءً لسنة السامري: (فاخرج لهم عجلاً جسداً له خوار، فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي. أفلا يرون ألاَّ يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً) (طه: 88 - 89).
ولنا أن نتساءل، من أين له أن هذا "الخيال" الذهني مماثل لذلك النعل النبوي؟ إذ من المعلوم ضرورة أن الصورة المتخيلة يستحيل أن تماثل أصلها إلا بوجود ذلك الأصل واقعاً ماثلاً لعين المتخيل، بحيث يقع نظره عليه ولو للحظة واحدة، ولا يمكن عقلاً أن يتصور الذهن صورة مماثلة لجسم ما بمجرد سماع أوصافه ومعرفتها دون معاينة.
وغاية ما يمكن تحصيله في هذه الحالة هي صورة قريبة من الأصل، أما المثلية فهي بعيدة المنال.
إذاً فزعمه بأنها مثال للنعل النبوي محض كذب وافتراء.
نعم هناك احتمال وارد أن يصادف "الخيال" الحقيقة ويكون الرسم موافقاً للنعل النبوي، لكنه ليس الاحتمال الأوحد، فهناك احتمالات كثيرة بعدد النعال الموجودة على ظهر الأرض، فالله أعلم أيها طابقه الخيال الموهوم.
فليت شعري، كيف لو طابقت نعل فرعون أو أبي جهل أو أبي لهب، أو غيرهم من الكفار والمشركين والمجوس؟
بل الناظر إلى الشكل الماثل أمامنا الآن يظن أنها صورة نعل هندية، فقد تكون مثالاً مطابقاً لنعل عابد من عباد البقر الهندوس.
وأياً كان الأمر، فهو، والله، دليل واضح وعلامة بينة على مبلغ سفه هذا المخالف وأضرابه وضلالهم وغيهم وازدرائهم بأنفسهم وامتهانهم لها، ثم احتقارهم وسخريتهم بعامة الناس، إذ يسطرون مثل هذا الهذيان ويصيحون به على مرأى ومسمع.
ومن هنا تعلم من الأحق بذلك الوصف الذي ورد في كلام المقري، ونقله المخالف مغتبطاً به، حيث قال: "وقد بلغني عن بعض الأغمار ممن هو كمثل الحمار أنه أنكر تصويري الأمثلة الشريفة .. "؟!
**
ولم يقتصر في دعوته إلى الشرك وعبادة المخلوق من دون الله على الدعاء والالتجاء، فحسب، بل عداه إلى بقية العبادات:
1 - منها الصلاة: فقد ذكر المخالف ما يلزم زائر القبر من آداب، قال ("شفاء الفؤاد" (ص189 - 190)): " ومنها، أن يتوجه بعد ذلك، (أي بعد صلاة التحية)، إلى الضريح الشريف مستعيناً بالله في رعاية الأدب بهذا الموقف المنيف، فيقف بخضوع ووقار وذلة وانكسار غاض الطرف مكفوف الجوارح واضعاً يمينه على شماله كما في الصلاة ".
وفي معرض حديثه عن زيارة قبور الأنبياء، قال ("شفاء الفؤاد" (ص97)): "فإذا جاء فليتصف بالذل والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع، وليحضر قلبه وخاطره إليهم .. " إلى أن قال: "وأما زيارة سيد الأولين والآخرين، صلوات الله عليه وسلامه، فكل ما ذكر يزيد أضعافه، أعني في الانكسار والذلة والمسكنة .. ".
وقال ("شفاء الفؤاد" (ص208)):
وقفنا على أعتاب فضلك سيدي ... لتقبيل ترب حبذا لك من ترب
وقال أيضاً ("شفاء الفؤاد" (ص114)):
نقبل الترب إجلالاً لساكنه ... فكل موطئ أقدام مقر فم
قلت: فقد أشرك معبوده مع الله في الصلاة، التي هي عمود هذا الدين وأعظم أركانه بعد الشهادتين، وصرف لمعبوده من الصلاة أوسط أركانها وأعلاها: القيام والسجود والذلة والخضوع والخشوع وجمع القلب وحضور الخاطر، وأضاف إليها بعض سننها ومكملاتها، كغض البصر وكف الجوارح ووضع الأيمان على الشمائل.
2 - ومنها: الحج. قال المخالف في ذكر مناسك زيارة القبر الشريف ("شفاء الفؤاد" (ص131)): "ينبغي ضبط الزيارة بما ضبط به الأئمة الاستطاعة في الحج".
وقال أيضاً ("شفاء الفؤاد" (131 - 132)): "فقرى الواقف ببابه الشريف كقرى الواقف بعرفات" إلى أن قال: "فقد أتم الله للحبيب المضاهاة بكل الحالات".
قلت: وهذا – كما رأيت – صريح الشرك، إذ سوى بين حج بيت المخلوق وحج بيت الخالق، بل صرح بالمضاهاة بكل الحالات، مؤكداً به الشرك والتسوية.
3 - ومنها: إدامة النظر إلى القبة والقبر، وهي من عجائب العبادات التي اخترعها المخالف، إذ قال ما نصه ("شفاء الفؤاد" (ص194)): "ويديم النظر إلى الحجرة الشريفة فإنه عبادة، قياساً على الكعبة، فإذا كان خارج المسجد أدام النظر إلى قبتها مع المهابة والحضور".
¥