يقول أبو الوليد: "إن من نظر في أجزاء الموجودات وفي ترتيبها وتنظيمها وارتباط أجزائها وحاجة بعض أجزائها إلى البعض الآخر، يدرك تماماً أنّ هذا المصنوع إنما صنعه صانع عليم حكيم، هذا الدليل الذي ساقه ابن رشد والمثال الذي ذكره والأسلوب الذي استعمله يقطع مجموع ذلك دابر ذلك الزعم بأن العالم وجد (صدفة) أو أوجدته (الطبيعة) إذ يأبى العقل الصريح والفطرة السليمة صدور هذا المصنوع العجيب عن طبيعة ليست هي أكثر من الشيء نفسه، أو صفة من صفات الشيء، والشيء لا يوجد نفسه، وأما صفة الشيء فهي تابعة للشيء، لأنها عرض قائم بالشيء، كما هو معروف لدى العقلاء", ثم يواصل ابن رشد حديثه في صفة العلم فيقول:
"وهذه الصفة هي صفة قديمة، إذ كان لا يجوز عليه سبحانه ألا يتصف بها وقتاً ما، ولكن لا ينبغي أن يتعمق في هذا، فيقال: ما يقوله المتكلمون"، ثم أخذ أبو الوليد يناقش أهل الكلام في بدعتهم التي أحدثوها في هذه الصفة كعادتهم: وهي قولهم: "هل الله يعلم المحدث في وقت حدوثه بعلم قديم أو بعلم حديث؟!! ", إلى آخر خوضهم الذي يدل على عدم تقديرهم الخالق حق قدره, فيقول أبو الوليد في تعليقه على هذا الخوض: "وهذا شيء لم يصرح به الشرع، بل المصرح به خلافه , وهو أنه تعالى يعلم المحدثات حين حدوثها كما قال تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُهَا} (الأنعام: 59).
هكذا يقرر أبو الوليد شمول علم الله تعالى، وأنه يعلم الأشياء قبل أن تكون على أنها ستكون، وكيف تكون، وإذا كانت على أنها كانت، وهو بكل شيء عليم، كيف لا؟ وهو الخالق البارئ المصور، وهذا مفهوم علم الله عند المسلمين سلفاً وخلفاً، بعيداً عن تكلف المتكلفين وتشبيه المشبهين، وتنطع أهل الكلام الذين يهرفون ما لا يعرفون، وقد ابتليت الأمة الإسلامية بهذه الطائفة أيما بلاء. والله المستعان.
محاولة ابن رشد الحل الوسط
في قضية قدم العالم
ناقش ابن رشد الخلاف القائم بين القائلين بأن العالم مخلوق محدث بعد أن لم يكن، وبين الفلاسفة القائلين بأن العالم قديم أزلي مع الاعتراف بأنه مخلوق. فيقول ابن رشد أن الخلاف في هذه المسألة يعود إلى اللفظ، أي خلاف لفظي غير جوهري، لأن في الوجود طرفين وواسطة لقد اتفق الجميع على الطرفين وهما:
أولاً: هناك واحد بالعدد قديم ـ الأول الذي ليس قبله شيء.
ثانياً: هناك على الطرف الآخر كائنات مكونة، وهي عند الجميع محدثة، ولكنهم اختلفوا في هذا العالم بجملته أقديم هو أم محدث؟ فيواصل الفيلسوف مناقشته قائلاً: "إن العالم في الحقيقة ليس محدثاً حقيقياً ولا قديماً حقيقياً لأن القول: إنه محدث حقيقي فاسد ضرورة لأن العالم ليس من طبيعته أن يفنى أي لا تنعدم مادته، والقدم الحقيقي ليس له علة والعالم له علة!!.
إذاً العالم محدث إذا نظرنا إليه من أنه معلول من الله، والعالم قديم إذا اعتبرنا أنه وجد عن الله منذ الأزل من غير تراخ في زمن، الخلاصة أن العالم بالإضافة إلى الله محدث، وبالإضافة إلى أعيان الموجودات قديم".
هكذا ينهي الفيلسوف ابن رشد مناقشته لهذه القضية العويصة حقاً. وقد اضطرب فيها كثير من حذاق الفلاسفة وأساطين أهل الكلام، والخوض في مثل هذه المسألة يعد من فضول الكلام، كما قال غير واحد من المحققين المعتدلين، ويكفي المرء أن يقول جملتين اثنتين مع الفهم والفقه وهما:
1 – الله خالق كل شيء وهو المبدئ المعيد.
2 – ما سوى الله مخلوق محدث بعد أن لم يكن. وكفى ..
وشبهة ابن رشد في تردده في هذه المسألة في أمرين اثنين هما:
1 – أن الله لن يزل فعالاً وخلاقاً.
2 – أن مادة العالم باقية ولا تفنى.
الجواب عن الشبهة الأولى أن يقال: إن الله تعالى له معنى الربوبية قبل أن يخلق المربوب، وله معنى الخالق قبل أن يخلق، وهو الرازق قبل أن يخلق الرزق والمرزوق، أي هو موصوف بجميع صفات الكمال أزلاً وأبداً، ولم تتجدد له بإيجاد خلقه صفة لم تكن له ولا يجوز أن يعتقد بأنه تعالى تجددت له صفة لم يكن متصفاً بها من قبل؛ لأن صفاته تعالى صفات كمال وفقدها صفة نقص، ولا يجوز أن يعتقد أنه حصل له الكمال بعد أن لم يكن.
¥