من صاع تمره حتى قال: ولو بشق تمرة. قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرَّة
كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيتُ كومين من
طعام وثياب، حتى رأيتُ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل (يستنير)
كأنه مُذْهَبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سنّ في الإسلام سنة
حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهمشيء» [4].
قال النووي رحمه الله: «وأما سبب سروره صلى الله عليه وسلم ففرحاً
بمبادرة المسلمين إلى طاعة الله تعالى، وبذل أموالهم لله، وامتثال أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ولدفع حاجة هؤلاء المحتاجين، وشفقة المسلمين بعضهم على
بعض، وتعاونهم على البر والتقوى. وينبغي للإنسان إذا رأى شيئاً من هذا القبيل
أن يفرح ويُظهر سروره ويكون فرحه لما ذكرناه» [5].
وأما عن بغضه لأعداء الله تعالى، فقد قال تعالى في صفة النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه:] وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ
فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ [(الفتح: 29).
وفي صلح الحديبية «نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة هديه
جملاً كان لأبي جهل ليغيظ به المشركين، وكان هذا الجمل قد غنمه صلى الله عليه
وسلم يوم بدر» [6].
واستنبط ابن القيم من هذه القصة: استحباب مغايظة أعداء الله تعالى [7].
ولما منّ صلى الله عليه وسلم على أبي عزة الجمحي وعاهده ألا يعين عليه
فغدر به، ثم قدر عليه بعد ذلك وطلب أن يمنّ عليه، فقال صلى الله عليه وسلم:
«لا تمسح عارضيك وتقول: سخرت بمحمد مرتين»، ثم قال صلى الله عليه
وسلم: «لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين؛ اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت! فضرب عنقه» [8].
والمقصود أن ننظر في هديه صلى الله عليه وسلم بعلم وشمول؛ فلا يقتصر
على جانب كونه نبي الرحمة أو التسامح أو المحبة، كما لا يقتصر على الطرف
المقابل، بل إن المتعيّن أن نشتغل باتباع هديه وسيرته في الحب والبغض، والولاء والبراء.
ولما كان الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان كما قال المصطفى
صلى الله عليه وسلم: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» [9]،
ولما كان الإيمان له ظاهر وباطن؛ فكذا الحبّ والبغض والولاء والبراء؛ فالحبّ
والبغض هما الأصل وهما أمران قلبيان، والولاء والبراء أمران ظاهران؛ فلازم
الحبّ الولاء، ولازم البغض البراءة والعداء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «أصل الموالاة هي المحبة، كما أن أصل
المعاداة البغض؛ فإن التحاب يوجب التقارب والاتفاق، والتباغض يوجب التباعد والاختلاف» [10].
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: «أصل الموالاة الحبّ،
وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلب والجوارح ما يدخل في
حقيقة الموالاة والمعاداة كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك
من الأعمال» [11].
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: «فالولاء والبراء تابع للحب والبغض،
والحبّ والبغض هو الأصل» [12].
فالولاء والبراء لازم الحبّ والبغض، وإذا تخلّف اللازم تخلّف الملزوم؛
فالظاهر والباطن متلازمان، ولا يكون الظاهر مستقيماً إلا مع استقامة الباطن، وإذا
استقام الباطن فلا بد أن يستقيم الظاهر [13].
ومن لوازم الحب في الله: النصح للمسلمين والإشفاق عليهم، ونصرتهم،
والدعاء لهم، وتفقد أحوالهم.
ومن لوازم البغض في الله: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وعدم
التشبه بهم، وعدم مشاركتهم في أعيادهم.
ولما كان الإيمان شُعَباً متعددة، فيمكن زوال بعضها مع بقاء بعضها الآخر،
ويجتمع في الشخص الواحد بعض شُعَب الإيمان مع بعض شعب الكفر الذي لا
يخرج من الملة؛ فكذا الولاء والبراء وهو من الإيمان فيجتمع في الشخص الواحد
موجب الولاية من جهة، وموجب العداوة من جهة أخرى، كما هو حال الكثير منا
معشرَ المسلمين ممن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً؛ فالواجب أن نحبهم ونواليهم
لما معهم من إيمان وصلاح، كما نبغضهم على قدر معاصيهم وتفريطهم.
¥