يقول ابن تيمية: «أما أئمة السنة والجماعة فعلى إثبات التبعيض في الاسم والحكم،
فيكون مع الرجل بعض الإيمان، لا كله، ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم
بحسب ما معه، كما يثبت له من العقاب بحسب ما عليه، وولاية الله بحسب
إيمان العبد وتقواه؛ فيكون مع العبد من ولاية الله بحسب ما معه من الإيمان والتقوى» [14].
ويقول أيضاً: «والمؤمن عليه أن يعادي في الله، ويوالي في الله، فإن كان
هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال
تعالى:] وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [(الحجرات: 9 - 10)،
فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم، ... وليعلم أن المؤمن
تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن
إليك؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب
لأوليائه والبغض لأعدائه، ... وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور
وبر، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من
الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص
الواحد موجبات الإكرام والإهانة، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويُعطى من
بيت المال ما يكفيه لحاجته» [15].
ومما يبيّن هذا الأمر ما جاء في هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد حقق
عليه الصلاة والسلام موجب العداوة والولاية في قصة ذاك الرجل الذي كان يشرب
الخمر، واسمه عبد الله، وكان كثيراً ما يُؤتى به فيجلد، فأتي به في إحدى المرات
فقال أحد الحاضرين: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال عليه الصلاة والسلام:
«لا تلعنوه! فوالله ما علمتُ إنه يحب الله ورسوله» [16].
ومن المعالم المهمة أن نتجرد لله تعالى في حبّنا وبغضنا، وأن نُخلِّص الولاء
والبراء من حظوظ النفس وشهواتها؛ فلا بد من المجاهدة والمحاسبة حتى يكون
الولاء والبراء ابتغاء وجه الله.
سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن الحبّ في الله، فقال:
«ألاَّ تحبه لطمع في دنياه» [17].
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «من أحب إنساناً لكونه يعطيه فما
أحب إلا العطاء، ومن قال إنه يحب من يعطيه لله فهذا كذب ومحال وزور من
القول، وكذلك من أحب إنساناً لكونه ينصره إنما أحبّ النصر لا الناصر، وهذا كله
من اتباع ما تهوى الأنفس؛ فإنه لم يحبّ في الحقيقة إلا ما يصل إليه من جلب
منفعة أو دفع مضرة؛ فهو إنما أحبّ تلك المنفعة ودفع المضرة، وإنما أحبّ ذلك
لكونه وسيلة إلى محبوبه وليس هذا حباً لله ولا لذات المحبوب.
وعلى هذا تجري عامة محبة الخلق بعضهم مع بعض، وهذا لا يثابون عليه
في الآخرة ولا ينفعهم؛ بل ربما أدى ذلك إلى النفاق والمداهنة؛ فكانوا في الآخرة
من الأخلاَّء الذين بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.
وإنما ينفعهم في الآخرة الحبّ في الله ولله وحده، وأما من يرجو النفع
والنصر من شخص ثم يزعم أنه يحبه لله فهذا من دسائس النفوس» [18].
ومما يجدر تقريره أن هذه الوشائج الإيمانية تبقى أو تدوم؛ لأن الولاء والبراء
يراد به وجه الله تعالى، والله تعالى هو الآخر ليس بعده شيء فلا يفنى ولا يبيد؛
بخلاف الصِّلات التي ليست لله تعالى؛ فسرعان ما تنقلب إلى عداوات في الدنيا والآخرة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «من أحبّ في الله، وأبغض في الله،
ووالى في الله، وعادى في الله؛ فإنما تُنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبدٌ طعم
الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة
الناس على أمر الدنيا؛ وذلك لا يجدي على أهله شيئاً» [19].
وقال ابن تيمية: «والناس إذا تعاونوا على الإثم والعدوان أبغض بعضهم
بعضاً، وإن كانوا فعلوه بتراضيهم، قال طاووس: ما اجتمع رجلان على غير
¥