الوجه الثاني: أن قول الشاطبي (وفي الحديث (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) الحديث، فإن المؤمن بالكوكب الكافر بالله هو الذي جعل الكوكب فاعلاً بنفسه) خطأ، ففي الحديث (وأما من قال مُطِرْنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب) ولم يقولوا (أمطرنا نوء كذا وكذا) والفرق بين الأمرين ظاهر، فقولهم (مُطِرنا) مبني للمفعول، ولو بنيته للفاعل لكان التقدير (أمطرنا الله) فهم نسبوا الفعل إلى الله سبحانه ولكنهم جعلوا النوء سبباً في ذلك بدليل (باء السببية) الداخلة على (نوء كذا)، والله سبحانه لم يجعل النوء سبباً قدرياً للمطر، والقاعدة المعلومة من النصوص أن جعل ما ليس بسببٍ سبباً شركٌ أصغر، كالطيرة مثلاً فقد جاء النص على أنها شرك لأن المتطير جعل ما لم يجعله الله سبباً للتطير، وكالتمائم فإن صاحبها جعلها سبباً في الحفظ وليست كذلك، وكالتولة فإن صاحبها جعلها سبباً للمحبة وليست كذلك، بخلاف الأسباب القدرية أو الشرعية التي جعلها الله سبحانه أسباباً فإن نسبة مسبباتها إليها لا شئ فيها -كما سبق-، فهؤلاء لو قالوا (مُطِرنا بالسحاب) لكان الكلام صحيحاً ولا شئ فيه البتة، فإن السحاب سبب للمطر جعله الله كذلك، وذكره في كتابه، فالفرق بين المسألتين أن أولئك جعلوا ما ليس بسببٍ سبباً وهو النوء، وهؤلاء ذكروا سبباً قدرياً صحيحاً، والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة
"مسألة التولد"
والمقصود بالتولد: وجود مسبب تولد من سبب مباشر من العبد، كتولد الشبع عن الأكل، والري عن الشرب، وزهوق النفس عن القتل، ونحوها، فذهب الشاطبي في هذه المسألة -كعادته-إلى مذهب الأشاعرة، وهو أن هذه الأمور من فعل الله سبحانه لا كسب فيها للمكلف ولا قدرة له عليها، وإليك نصوصه في ذلك:
1 - قال في (الموافقات) 1/ 302: (ثبت في الكلام أن الذي للمكلف تعاطي الأسباب، وإنما المسببات من فعل الله وحكمه لا كسب فيه للمكلف)
2 - وقال في (الموافقات) 1/ 306: (فصارت الأسباب هي التي تعلقت بها مكاسب العباد دون المسببات، فإذاً لا يتعلق التكليف إلا بمكتسب، فخرجت المسببات عن خطاب التكليف، لأنها ليست من مقدورهم، ولو تعلق بها لكان تكليفاً بما لا يطاق).
3 - وقال في (الموافقات) 1/ 308: (إن المسببات راجعة إلى الحاكم المسبِّب، وإنها ليست من مقدور المكلف).
4 - وقال في (الموافقات) 1/ 312: (إن المسببات غير مقدورة للعباد كما تقدم).
5 - وقال في (الموافقات) 1/ 337: (المسببات التي حصل بها النفع والضر ليست من فعل المتسبب).
6 - وقال في (الموافقات) 1/ 355: (قد تبين أن المسبب ليس للمكلف، ولم يكلف به، بل هو لله وحده).
7 - وقال في (الموافقات) 1/ 356: (- فسر حديث (وإن أصابك شئ فلا تقل:لو أني فعلت كان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) - قال: فقد نبهك على أن لو تفتح عمل الشيطان، لأنه التفات إلى المسبب في السبب، كأنه متولد عنه أو لازم عقلاً، بل ذلك قدر الله وما شاء فعل، إذ لا يعينه وجود السبب، ولا يعجزه فقدانه) (1).
8 - وقال في (الموافقات) 3/ 36: (المسببات ليست من فعل المتسبب وإنما هي من فعل الله تعالى، فالله هو خالق الولد من الماء، والسكر عن الشرب، كالشبع مع الأكل، والري مع الماء، والإحراق مع النار).
9 - وقال في (الموافقات) 3/ 440: (كلفنا في الأسباب بالأمر والنهي، وأما أنفس المسببات من حيث هي مسببات فمخلوقة لله تعالى).
قلت: والكلام على هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه المسألة وتسمى (مسألة التولد) ويُمثل لها باندفاع الحجر عند اعتماد العبد عليه، فهل اندفاعه هذا مقدور للعبد ومن فعله أو من فعل الله سبحانه ولا قدرة للمكلف عليه؟ ذهب الأشاعرة تبعاً لمذهبهم في الجبر أنه فعلٌ لله سبحانه ولا قدرة للعبد عليه مطلقاً، وطردوا هذا في كل المسببات المتولدة عن الأسباب كالشبع من الأكل، والري من الشرب، والزهوق من القتل، وهكذا (1)، أما المعتزلة فقد ذهبوا -طرداً لقاعدتهم في القدر- إلى أن هذه المتولدات من فعل العبد فقط (2).
والحق في هذه المسألة هو ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (3):
¥