وقال " ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها .... هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون ".
فكما سبق بيانه من أن تحكيم شرع الله هو الإسلام، فإذا بلغ من العبد إلى حد انتفاء الحرج والمعارضة بالرضا الكامل فهو الإحسان، فكذلك اعتقاد بطلان ما عداه، وأنه وحده الحق الذي لا أحسن منه ولا أهدى هو درجة الإسلام، فإذا رسخ هذا حتى لا تزعزعه شبهة ولا يعتريه شك فهو اليقين.
اللطيفة السابعة في اليقين في القرآن ص 596:
فاليقين في الجملة متعلقه الاعتقاد، وذلك أن مجمل الإيمان القلبي هو الإيمان بالغيب، فإذا رسخ هذا الإيمان وارتقى عن الشكوك حتى يصبح كالمعاينة فهو اليقين، ولهذا جاء أعظم الغيبيات بعد الإيمان بالله، وهو الإيمان بالآخرة مقرونا باليقين أكثر مما سواه، فقال تعالى " وبالآخرة هم يوقنون " في أو ل البقرة والنمل ولقمان، فإن الإيمان بالآخرة مع دلالة الفطرة السوية والعقل السليم عليه ليس في قوة الإيمان الفطري بالله، كما أن تفصيلاته مصدرها الوحي وحده.
اللطيفة الثامنة في ذكر الصدق والإخلاص في القرآن ص605:
ولهذا جاء الحديث عن الصدق في السور التي تعرضت للنفاق وأهله؛ كسورة براءة والأحزاب والمنافقون والقتال (محمد) والحجرات والحشر.
وجاء الحديث عن الإخلاص في السور التي تحدثت عن الشرك والمشركين؛ كسورة الأعراف والزمر وغافر والبينة والكافرون، بل في سورة الأنعام وإن لم يذكر فيها صريحا.
اللطيفة التاسعة في تقديم الإيمان على الأعمال الصالحة في الآيات ص674:
وإنما كثر تقديم الإيمان؛ لأن المراد به قول القلب وعمله، وهو الأصل، فالباطن أصل للظاهر كما سبق، لكن ورود بعض مواضع يتقدم فيها ذكر العمل عليه، يدل على التلازم، وعلى أهمية المقدم من بين أعمال الإيمان في ذلك السياق، ومن ذلك " ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن " ثم قال المؤلف أيضا: ومنها " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " فلا يقال: إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ليسا من الإيمان، أو يصحان بدونه، وتقديمها عليه، وإلا فمعلوم قطعا أن الإيمان لا يتقدم عليه شيء، إذ لا يقبل شيء بدونه.
بل المقصود التنبيه على أهمية هذه الميزة الإسلامية، بإفرادها عن سائر أعمال الإيمان، وتقديمها عليه، وإلا فمعلوم قطعا أن الإيمان لا يتقدم عليه شيئ، إذ لا يقبل شيئ بدونه.
اللطيفة العاشرة ص676:
" ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا "
ووجه الأهمية أن الله تعالى ذكر ضمن الرد على دعوى الإيمان بالتسمي والقول، دون إصلاح العمل ورد على من يزعم هذه الدعوى سواء أكان كتابيا أم حنيفيا، فقال قبلها:
" ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا " وقال بعدها " ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله هو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا ".
فبين أن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، بل ما وقر في القلب وصدقه العمل، وأنه لا أحد أحسن دينا ممن أسلم، أي انقاد وأطاع بلا حرج ولا منازعة، وهذه هي ملة إبراهيم، التي لا يقبل الله دينا غيرها مهما كثرت الأماني والدعاوي.
اللطيفة الحادية عشرة في عطف الأعمال الصالحة على الإيمان ص767:
إن أعمال الجوارح في الأصل ليست من الإيمان؛ بل الإيمان أصله ما في القلب، والأعمال هي من لوازمه التي لا تنفك بحال، لكن جاء الشرع فأدخلها فيه، وأصبح اسم الإيمان شاملا لها على الحقيقة شرعا، فكثر في كلامه عطفها عليه توكيدا لذلك لكيلا يظن ظان أن الإيمان المطلوب هو ما في الإيمان فقط، بل يعلم أن لازمه العمل ضروري كضرورته، فها هو ذا قد أُدخل في اسمه وحقيقته، في مواضع الانفراد، وقُرن في مواضع العطف، وبمراجعة ما سبق قوله عن الحقيقة المركبة، يتضح هذا جليا بإذن الله، فإن الشيء المركب من جزأين لا يمتنع عطف أحدهما على الآخر , وإن كان أحدهما إذا أطلق يشملهما اسمه معا , لا سيما وأن المعطوف عليه هو الأصل الذي إذا أطلق شمل العمل , والمعطوف فرع ولازم له، فيأتي العطف لبيان وجوب وجودها مجتمعة , إذ انتقاء أحد جزءيها انتقاءٌ لذات الحقيقة، ومن هنا يظهر سر تكرار ذلك العطف في القرآن والله أعلم، فانه مطابق لإجماع السلف أن الإيمان قول وعمل، أي اعتقاد وانقياد كما سبق وهو المطابق للأحاديث التي سبق إيرادها في مبحث الحقيقة المركبة، ولا سيما حديث جبريل الذي فسر ? فيه الإسلام، وفسر الإيمان بالجزء الباطن، ومعلوم قطعا أن أحدهما لا يغني عن الآخر منفردا، بل منهما معا تتكون حقيقة واحدة هي الدين كما جاء في آخره " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " وإن كان الإيمان أعلى درجة ومرتبة من الإسلام، باعتبار أنه الأصل، كما أن الإحسان أعلى منه، لكن اسمه المطلق يشملهما، والإسلام الذي هو أدنى منه لا يصح إلا به، أو بجزء منه.أ. هـ
وهذا هو الجزء الخاص باللطائف التفسيرية في كتاب ظاهرة الإرجاء ... وبعد ذلك سأنتقل إلى
الجزء الثالث من الفهرسة ... أسأل الله التوفيق والسداد.