[قراءة العقول وفهم الدوافع والخلفيات]
ـ[محمد جلال القصاص]ــــــــ[19 - 03 - 08, 01:29 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
قراءة العقول
محمد جلال القصاص
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. اللهم لا حول ولا قوة إلا بك.
مقدمة:
قراءة العقول وفهم الدوافع والخلفيات التي ينطلق منها المتكلم وكذا الأهداف التي يرمي إليها أمر في غاية الأهمية، فأقل ما فيه هو أنه يجنبك إصدار حكم ظالم على من وقع في ذلل، أو قبول من نطق بالحق مصادفة أو لغرض ما.
وهذا الأمر مشاهد بين المنتسبين للعمل الإسلامي اليوم، فكثيرون يستمسكون بخطأ فرد معين ـــ أو جماعة ـــ في مسألة من مسائل العقيدة ويشتدون في ذلك، ولا يرون للشخص ــ أو الجماعة إلا هذا الخطأ، علما بأنهم لو أخذوا هذا الفرد ــ أو هذه الجماعة ــ بكليته لتَغيرَ قولهم، وكثيرون على النقيض يقبلون المغرضين كونهم تكلموا مرة ـــ في مقال أو لقاء ــ بكلام حسن مقبول.!
وكله ميل وانحراف. وحسبك بهذا سببا لتهتم بقراء العقول وفهم الدوافع والخلفيات.
وإذا عرفت المرض وعرفت أعراضه التي تبدوا على المصاب به، سهل عليك أن تعرف المريض من أعراض المرض الخارجية التي تبدوا عليه في كتاباته أو محاضراته أو فتاويه.
وبحول الله وقوته أحاول أن أعرض حالة (العقلانيون) كنموذج لضرورة فهم خلفية المتكلم ومعرفة دوافعه وأهدافه.
أقول: كثير من دعاة الفكر الشاذ المنحرف ـــ بإفراط أو تفريط ـــ أذكياء أعطاهم الله قدرة على البيان والمجادلة مع قلة في العلم.
ومَن هذا حاله تعظم عنده نفسه في الغالب، ويتعامل من منطلق أنه يعرف كل شيء، وأن العلم عنده كاملا غير منقوص، فحين يُستفتى في شيء يُفتي بما عنده ــ وهو قليل لا يصلح للفتوى أصلا ــ ولا يرجع إلى العلماء الراسخين ليستبين منهم، بل ربما يتهمهم ويُشَكِكْ في علمهم إن خالف رأيه حقهم.
تجده قد تصدر للفتوى والتوجيه في القضايا المصيرية؛ ولو أنصف نفسه من نفسه لأمسك قلما وقرطاسا وتربع بين يدي العلماء. . . يسمع ويذاكر.
وحتى يتضح المقال أضرب الأمثال.
الجهم بن صفوان نموذجا لهذه النوعية من الضالين.
كان ذكيا لسنا مجادلا ... مجبولا على الاعتراض والمراء ــ هذه كل ثروته ــ لم يكن يُعرف بعباده حتى قيل أنه لم يحج البيت، ولم يكن يجلس إلى العلماء بل إلى أصحاب البدع والمتفلسفة من الكفرة.
اتصل ذات يوم بطائفة من الزنادقة الهنود، يقال لهم: "السمنية" وراح يجادلهم وهو صِفْرٌ من العلم معتمدا فقط على عقله.
وابتدئوا الكلام معه بالسؤال عن مصدر المعرفة (وهي أكبر قضية فلسفية على الإطلاق، وأصل كل بحث ونظر عندهم) وكانت فلسفتهم تقوم على أن المصدر للمعرفة هو الحواس الخمس.
ونحن نقول أن المصدر اليقيني في المعرفة هو الوحي، وصدق الخبر نستدل عليه بصدق المُخْبر إنْ كتابا وإنْ سنة، ونقول أن الحواس لا تدرك الأشياء على حقيقتها أحيانا بل غالبا، فللعين مدى في الرؤيا لا تتجاوزه، وللأذن مدى في السمع لا تتجاوزه ... وهكذا، وقد يبدوا للعين الشيء على غير حقيقته كما في ظاهرة السراب، والنجوم في السماء فمما يقال أن ما نراه في السماء بأعيننا ارتحل منذ خمسين عاما.!!
والعلم التجريبي نظريات يكذب بعضها بعضا، فنظريات اليوم تعدل أو تكذب نظريات الأمس، في الكمياء وفي الصيدلة وفي الطب وفي الفلك ... الخ. فكيف نضع ثقتنا في من يتغير كلامه أو يتعدل؟!
ولما كان الجهم جاهلا سلم لهم بأصلهم الفاسد هذا، فسألوه سؤالا آخر مبنيا على هذا الأصل، وهو: صف لنا ربك يا جهم؟ بأي حاسة أدركته من الحواس، أرأيته أم لمسته - أم سمعته … الخ؟!
وسقط في يد هذا الضال المسكين ــ كما يقول الدكتور سفر الحوالي في الإرجاء ــ، وطلب منهم مهلة ليفكر في الأمر.
ولم يستطع أن يستلهم حجة، ولم يسأل العلماء فيداووه ويلقنوه. بل راح يبحث في عقله عن جواب ... وأنى!
¥