[القلب ييبس إذا خلا من توحيد الله]
ـ[أبو هاجر المغربي]ــــــــ[23 - 02 - 08, 03:16 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم
فالقلب، إنما يَيبس إذا خلا من توحيد الله و حبه و معرفته و ذكره و دعائه، فتصيبه حرارة النفس، و نار الشهوات، فتمتنع أغصان الجوارح من الامتداد إذا مددتها، و الانقياد إذا قُدتها، فلا تصلح بعدُ هي و الشجرة إلا للنَّار {فويلٌ للقاسية قُلوبهم مِّن ذكر الله أولئك في ضلال مُّبين} [الزمر:22]، فإذا كان القلب ممطورا بمطر الرحمة، كانت الأغصان ليِّنة مُنقادة رطبة، فإذا مددتها إلى أمر الله انقادت معك، و أقبلت سريعة لينة وادعة، فجنيت منها من ثمار العبودية ما يحمله كل غصن من تلك الأغصان و مادتها من رطوبة القلب و ريِّه، فالمادة تعمل عملها في القلب و الجوارح، و إذا يبس القلب تعطلت الأغصان من أعمال البِّر؛ لأن مادة القلب و حياته قد انقطعت منه فلم تنتشر في الجوارح، فتحمل كل جارحة ثمرها من العبودية، و لله في كل جارحة من جوارح العبد عبودية تخُصُّه، و طاعة مطلوبة منها، خلقت لأجلها و هيئت لها.
الناس ثلاثة أقسام في استعمال جوارحهم
و الناس بعد ذلك ثلاثة أقسام:
أحدهما: من استعمل تلك الجوارح فيما خلقت له، و أريد منها، فهذا هو الذي تاجر الله بأربح التجارة، و باع نفسه لله بأربح البيع.
و الصلاة وُضعت لاستعمال الجوارح جميعها في العبودية تبعاً لقيام القلب بها و هذا رجلٌ عرَف نعمة الله فيما خُلق له من الجوارح و ما أنعم عليه من الآلاء، و النعم، فقام بعبوديته ظاهراً و باطناً و استعمل جوارحه في طاعة ربِّه، و حفظ نفسه و جوارحه عمَّا يُغضب ربه و يشينه عنده.
و الثاني: من استعمل جوارحه فيما لم تُخلق له، بل حبسها على المخالفات و المعاصي، و لم يطلقها، فهذا هو الذي خابَ سعيه، و خسرت تجارته، و فاته رضا ربَّه عزَّ و جل عنه، و جَزيل ثوابه، و حصل على سخطه و أليم عقابه.
و الثالث: مَن عطَّل جوارحه، و أماتها بالبطالة و الجهالة، فهذا أيضا خاسر بائر أعظم خسارة من الذي قبله،فإن العبد إنما خُلق للعبادة و الطاعة لا للبطالة.
و أبغض الخلق إلى الله العبد البطَّال الذي لا في شغل الدنيا و لا في سعي الآخرة.
بل هو كلّ على الدنيا و الدين، بل لو سعى للدنيا و لم يسع للآخرة كان مذموماً مخذولاً، و كيف إذا عطّل الأمرين، و إنَّ امرء يسعى لدنياه دائما، و يذهل عن أُخراه، لا شكَّ خاسر.
تمثيل لهذه الأصناف الثلاثة
فالرجل الأول، كرجل أُقطع أرضا واسعة، و أعين على عمارتها بآلات الحرث، و البذر و أعطي ما يكفيها لسقيها و حرثها، فحرثها و هيَّأها للزراعة، و بذر فيها من أنواع الغلات، و غرس فيها من أنواع الأشجار و الفواكه المختلفة الألوان ثم أحاطها بحائط، و لم يهملها بل أقام عليها الحرس، و حصنها من الفساد و المفسدين، و جعل يتعاهدها كل يوم فيُصلح ما فسد منه، و يغرس فيها عوض ما يبس، و ينقي دغلها و يقطع شوكها، و يستعين بغلَّتها على عمارتها.
و الثاني: بمنزلة رجل أخذ تلك الأرض، و جعلها مأوى السباع و الهوام، و موضعاً للجيف و الأنتان، و جعلها معقلا يأوي إليه فيها كل مفسد و مؤذٍ و لصٍّ، و أخذ ما أعين به من حرثتها و بذارها و صلاحها، فصرفه و جعله معونة و معيشة لمن فيها، من أهل الشرِّ و الفساد.
و الثالث: بمنزلة رجل عطَّلها و أهملها و أرسل الماء ضائعاً في القفار و الصحارى فقعد مذموماً محسوراً.
فهذا مثال أهل اليقظة، و أهل الغفلة، و أهل الخيانة.
أهل اليقظة و الغفلة الخيانة
فالأول: مثال أهل اليقظة، والاستعداد لما خلقوا له.
و الثاني: مثال أهل الخيانة.
و الثالث: مثال لأهل الغفلة.
فالأول: إذا تحرّك أو سَكَن، أو قام أو قعد، أو أكل أو شرب، أو نام، أو لبس، أو نطق، أو سكت كان كلِّه له لا عليه، و كان في ذكر و طاعةٍ و قربة و مزيد.
و الثاني: إذا فعل ذلك كان عليه لا له، و كان في طردٍ و إبعادٍ و خُسران.
و الثالث: إذا فعل ذلك كان في غفلة و بطالةٍ و تفريطٍ.
فالأول: يتقلَّب فيما يتقلب فيه بحكم الطاعة و القربة.
و الثاني: يتقلب في ذلك بحكم الخيانة و التعدِّي، فإن الله لم يملِّكه ما ملّكه ليستعين به على مخالفته، فهو جانٍ متعد خائن لله تعالى في نعمه عليه معاقبٌ على التنعُّم بها في غير طاعته.
و الثالث: يتقلب في ذلك و يتناوله بحكم الغفلة و الهوى و نهمة النفس و طبعها، لم يتمتع بذلك ابتغاء رضوان الله تعالى و التقرب إليه، فهذا خسرانه بيَّن واضح، إذ عطّل أوقات عمره التي لا قيمة لها عن أفضل الأرباح و التجارات.
فدعا الله عباده المؤمنين الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس، رحمة منه بهم، و هيأ لهم فيها أنواع العبادة؛ لينال العبد من كلِّ قول و فعل و حركة و سكون حظه من عطاياه.
من كتاب أسرار الصلاة لابن قيم الجوزية رحمه الله.