(مسألة): قال الأكثر من العلماء: (و) يقطع أن (أقل الجمع ثلاثة) وقال: (أبو يوسف والباقلاني والأستاذ: اثنان). انتهى.
والقول بأن أقلّه ثلاثة هو اختيار الإمام عبد الله بن حمزة، ونسبه إلى الأكثر كما في صفوة الاختيار (79 - 80).
فهل يستطيع السيد أن يلتزم اتهام جميع هؤلاء بالكذب؟! أم أنه التحامل على ابن تيمية قاده إلى هذه المزالق؟.
ثالثاً: فإن قيل إنّ شيخ الإسلام ادعى الإجماع ولا يصح هذا الإجماع؛ فالجواب من وجوه:
الأول: أن السيد لم يعترض على شيخ الإسلام دعوى الإجماع، وإنما اعترض على نفس القول والاختيار، ولذا كذّبه بالآية لا بوجود الخلاف.
الثاني: أنه حتى لو ادعى الإجماع فأخطأ في ذلك لم يكن سبيل الرد عليه بالتكذيب ولا الاتهام بل التخطئة والاستدراك كما سبق.
الثالث: أن شيخ الإسلام لعله قصد بذلك الإجماع أن صيغة الجمع لا يراد بها الاثنين في الحقيقة لا أنه يجوز إطلاقها على الاثنين على جهة المجاز مع وجود قرينة تدل على ذلك، ومثل هذا الإجماع قد حكاه الإمام أحمد بن سليمان في (أصول الأحكام 1/ 257) فقال: والإجماع على أن أقلّ الجمع الحقيقي ثلاثة ... ".انتهى.
ولما كان لفظ (الراكعين) صريحٌ في الجمع عند شيخ الإسلام لم يجز حمله على الاثنين، ولا يقال إن الأثر قرينةٌ للجواز، لأنه يفتقر إلى الثبوت أولاً.
رابعاً: لو تجاوزنا الكلام عن أسلوب السيد في الرد، ونظرنا في دليله الذي اعتمده، فيمكننا إبطال ردّه من جهةٍ أخرى ظاهرة، وذلك أنّ زعمه: (أن القرآن يكذب قول ابن تيمية بنصٍّ صريح وبلا احتمال)؛ مجازفةٌ واضحةٌ، حيث أنّ قوله تعالى (فقد صغت قلوبكما) ليست نصاً في الباب، فهي محتملةٌ للتأويل، بل عدّها بعض الأصوليين أجنبيةً عن محل النزاع، ولذا سنذكر في تأويل هذه الآية وجوهاً عديدة تبطل النصّية، ثم نعقّب بذكر من عدّها خارجة عن محل النزاع.
فمن وجوه تأويل هذه الآية:
الأول: ما ذكره ابن حزم بقوله في الأحكام (ج 4 / ص 392): واحتجوا أيضا بقوله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) وإنما كان لهما قلبان.
قال علي: ولا حجة لهم في هذا، لأن هذا باب محفوظ في الجوارح خاصة، وقد نقل النحويون هذا الباب وقالوا: إن كل اثنين من اثنين، فإنه يخبر عنهما كما يخبر عن الجمع، كأنّ العرب عدّت الشيئين المخبر عنهما ثم أضافتهما إلى الشيئين اللذين هما منهما، فصارت أربعة، فصح الجمع ... انتهى.
الثاني: أنه جارٍ على خلاف القياس وإنما كان الجمع هنا لاستثقال جمع التثنيتين، ذكر ذلك ابن أمير الحاج في التقرير والتحبير ج1/ص247، وعلاء الدين البخاري في كشف الأسرار ج2/ص48، والشوكاني في فتح القدير عند ذكر هذه الآية، وغيرهم.
الثالث: أن المراد بالقلوب هنا الميول لا القلوب الحقيقية، ففي المحصول ج2/ص611 للرازي:
" وأما قوله تعالى: (فقد صغت قلوبكما) فجوابه: أنه قد يطلق اسم القلب على الميل الموجود في القلب فيقال للمنافق إنه ذو لسانين وذو وجهين وذو قلبين، ويقال للذي لا يميل إلا إلى الشيء الواحد له قلبٌ واحدٌ ولسانٌ واحد، ولما خالفتا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ونمتا بأمر مارية وقع في قلبيهما دواع مختلفة وأفكار متباينة، فصحّ أن يكون المراد من القلوب هذه الدواعي، وإذا صح ذلك وجب حمل اللفظ عليها لأنّ القلب لا يوصف بالصغو وإنما يوصف الميل به" انتهى.
وذكر نحو هذا البيضاوي في الإبهاج ج2/ص124.
إذا تبين لك هذه الوجوه في تأويل الآية، فاعلم أنّ من أهل الأصول من عدّ الاستدلال بها أجنبياً عن محل النزاع ..
فمن كتب الزيدية ما في حاشية معيار العقول كما ذكر ذلك محقق منهاج الوصول إلى معيار العقول (317) ونصه في الحاشية رقم"4":
" واعلم أن النزاع في نحو رجال ومسلمين وضربوا، أو اضربوا، لا في لفظ جمع ولا في نحن فعلنا، ولا في نحو (فقد صغت قلوبكما) فإنه وفاق، ذكره بعضهم. (ت. ح.م) " انتهى. والرمز المذكور معناه أنها تمت من حاشية المعيار.
وفي كشف الأسرار ج2/ص48 لعلاء الدين البخاري قوله:
" وذكر في شرح أصول الفقه لابن الحاجب أنه لا خلاف في لفظ (ج م ع) أعني الجمع لغة، وهو ضم شيء إلى شيء، فإن ذلك متحقق في الاثنين من غير خلاف، ولا في الضمير الذي يعني به المتكلم نفسه وغيره متصلا ومنفصلا نحو نحن فعلنا؛ لاتفاق اللسان على كونه موضوعا لتعبير المرء عن نفسه وعن غيره سواء كان واحدا أو جمعا، ولا في نحو قوله تعالى: (فقد صغت قلوبكما) فإن ما يتعدد من شخصين فالتعبير عنه في اللغة الفصيحة عند إضافته إليهما أو إلى ضميرهما بصيغة الجمع حذاراً من استثقال الجمع بين تثنيتين ... إلى قوله: فتبين بهذا أن من استدل على كونه حقيقة في الاثنين بالصور المتفق عليها فقد حاد مسلكه عن محل النزاع؛ لأنها إنما تثبت بعلل مخصوصة ولكلٍ بابٌ وقياس، واللغة لا تثبت قياساً ". انتهى.
وقال البعلي الحنبلي في القواعد والفوائد الأصولية ج1/ص239: " ولا خلاف أيضاً في "نحن فعلنا" ولا في باب (فقد صغت قلوبكما) ".
وقال ابن أمير الحاج في التقرير والتحبير ج1/ص247: ولا خلاف في نحو قوله تعالى (فقد صغت قلوبكما) أي في التعبير بصيغة الجمع ... إلى قوله: بل جواز إطلاقه على الاثنين وفاق. انتهى.
قلتُ:
فانظر كيف عدّ هؤلاء الأئمة هذه الآية محلَّ وفاق، والاستدلال بها حيدة في المسلك عن محل النزاع.
ولو أنّ السيد جعلها دليلاً له في معارضة المخالفين، على نهج أهل العلم في الاستدلال والردّ؛ لما جنحنا إلى التثريب عليه، إذ الأمر محتمل، وله في ذلك الاستدلال والنظر سلف، لكن أن يجازف فيدّعي أنها نصّ صريحٌ بلا احتمال!! ومخالفه كذّاب بنص القرآن!! فدون إثبات ذلك خرط القتاد، وهو ما أنكرناه عليه وبيّنا بطلانه بما لا يستريب معه العاقل المنصف ..
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلّم على سيدنا محمّد وآله.