فمن الجمل الفعلية الدعائية: قولنا: (صلى الله على محمد، صلى الله عليه وسلم)، فهذه جمل خبرية المبنى، إنشائية المعنى، فأنت تدعو الله هنا، أن يصلى على نبيه، لا أنك تخبر بصلاة الله عليه، تقديرها: (اللهم صل على محمد، اللهم صل عليه وسلم)، فأنت تطلب وتدعو، لا أنك تخبر عن الله.
ومن ذلك: قولنا في الصلاة: (سمع الله لمن حمده)، فهذه جملة فعلية خبرية لفظاً، إنشائية معنى، فليس هذا بإخبار عن الله أنه قد سمع لمن حمده، بل هذا دعاء مسألة وطلب فمن يقول هذا إنما هو يدعو ويسأل ويطلب إلى الله أن يسمع لمن حمده، وأن يستجيب له، فهو يقول: اللهم اسمع، واستجب، فهذه جملة صيغت للطلب والدعاء لا للإخبار.
و من ذلك: (أضْحَكَ اللهُ سِنَّكَ)، و (تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ)، و (غَفَرَ اللهُ لَنَا وَلَكُمْ)، هل هذه الجملُ جمل إخبارية ـ أقصد ـ هل تحققت، ووقعت، ومضت، وانقضت (؟)، أم أنها إنشائية، طلبية، دُعائية (؟).
هذا ليس إخباراً فأنا هنا لا أخبر أن الله قد أضحكك، بل أدعو الله أن يديم عليك فرحك وسرورك، والباعث عليه، كما فسرها أهل العلم، ولسنا ندري أتقبل الله أم لم يتقبل، وهل غفر أم لم يغفر (؟)؛ لا ندري، إذن هذا دعاء وإنشاء وطلب، لا يحتمل الصدق ولا الكذب.
ومن ذلك أيضاً: (حَيَّاكَ اللهُ)، و (رَعَاكَ)، و (حَفِظَكَ)، و (شَكَرَ اللهُ لَك)، فنحن نقصد بهذا القول الدعاء والطلب، لا حقيقة الخبر فلسنا نخبر هنا، بل ندعو ونطلب، فهي جمل إنشائية معنى، خبرية لفظاً لا نقصد بها حقيقة الخبر.
وهكذا قولنا: (كُفِيْتَ)، و (وُقِيْتَ)، (وَهُدِيْتَ)، و (جُزِيْتَ خَيْراً)، و (بُورِكَ فِيْكَ)، كل ذلك من ذلك، من جملة الجمل الفعلية الدعائية الطلبية.
ومن ذلك أيضاً قول الشاعر:
(جَادَكَ الْغَيْثُ إِذَا الْغَيْثُ هَمَى، يَا زَمَانَ الْوَصْلِ بِالأَنْدَلُسِ).
فقوله: (جَادَكَ الْغَيْثُ)، جملة دعائية، خبرية لفظاً، إنشائية معنى، يدعو بالغيث والمطر والسُّقْيَا لزمان الوصل إذا الغيث همى وهطل وتساقط، لا أنه يخبر، بل هو يدعو.
ومنه قول الشاعر:
(مَهْلاً سَقَتْكَ الْغَوَادِي هَاطِلَ الدِّيَمِ ... مَنْ ذَا يُبَارِيْكَ فِي قَوْلٍ وَفِي حِكَمِ).
قوله: (سَقَتْكَ الغَوَادِي)، دُعَاءٌ بالسُّقْيَا والمطر والغيث النافع لا أنه يريد الإخبار، فهذه جملة خبرية لفظاً إنشائية معنى.
ومن هذا الباب والأسلوب وضْعُ الخبر موضع الإنشاء: قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم حنين: ((شَاهَتِ الْوُجُوهُ)) (18)، فالصياغةُ خبريةٌ، وإنما الدَّلالة إنشائية، فرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هنا يدعو على الكفار أن يقبح الله وجوههم، وليس يخبر، وهو يقصد الكفار يوم حنين يوم التقى الجمعان.
وكذلك قولهم: (عَمِيَتِ الأَبْصَارُ)، (شَلَّتِ الأَيْدِي) (19)،، (خَرِبَتِ الدَّارُ)، و (خَرِبَتْ خَيْبَرُ) (20)، هي من هذا الباب، يقصد بها الدعاء.
وهنا يَرِدُ علينا سؤال وهو: لماذا هذا الأسلوب في التعبير، لِمَ نستعمل صيغة الماضي في الدعاء، والطلب، لماذا صيغة الخبر (؟؟؟).
ــــــــــــــــــــــ
(1) مسلم (كتاب السلام) (بابٌ لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك) (حديث رقم 5732).
(2) أبو داود (كتاب الطب) (باب في الرقى) (حديث رقم 3886).
(3) مسلم (كتاب السلام) (باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة) (حديث رقم 5731).
(4) أبو العباس أحمد بن عمر القرطبى (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم) (ومن باب مِمَّاذا يرقى) (ج 4).
(5) الحاكم (المستدرك على الصحيحين) (كتاب الرقى والتمائم) (ج 4) (وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) (حديث رقم 8277).
(6) أحمد بن غنيم النفراوي المالكي (الفواكه الدواني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني).
(7) الحافظ ابن حجر العسقلاني (فتح الباري شرح صحيح البخاري) (كتاب الطب) (باب الرقى بالقرآن والمعوذات).
(8) ابن تيمية (مجموع الفتاوى) (24/ 277).
(9) بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد العيني (عمدة القاري شرح صحيح البخاري) (باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو) (حديث رقم 5705).
(10) عبد الرحمن السعدي (القول السديد شرح كتاب التوحيد) (ص 35، 36).
(11) مثالها: (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت).
(12) مثالها: (لك الله).
(13) مثالها: (سَقْياً وَرَعْياً وَإِيْمَاناً وَمَغْفِرةً ... لِلبَاكِيَاتِ عَلَيْنَا حِيْنَ نَرْتَحِلُ).
(14) مثالها قول كُثَيِّر عزة: (هَنِيْئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ ... لِعَزَّةَ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ).
(15) مثالها قوله تعالى: (لا مرحباً بكم).
(16) مثالها: (لا فُضَّ فوك).
(17) مثالها: (لا يفضض الله فاك).
(18) شاهت: أي: قَبُحَتْ، من: (شَاهَ وَجْهُهُ شَوْهاً وَشَوْهَةً: إذا قَبُحَ).
(19) (قال ثعلب: شَلَّتْ يَدُهُ لُغَةٌ فَصِيْحَةٌ، وشُلَّتْ لغةٌ رَديئة، ويقال: أَشَلَّتْ يده) (وقال الأزهري: المعروف شَلَّتْ يَدُهُ تَشَلُّ بالفتح فهي شلَّاء) (لسان العرب).
(20) (قالها صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم أن أصبح يهود بالجيش ـ كما في الصحيح ـ: (الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)، فرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يُخْرِبْ خيبر ساعة أن قالها فهو لا يخبر بهذا، فمازال داخلاً، بل يدعو عليها بالخراب بعد العمار).
منقول من موقع الجُنةُ من الجِنةِ
للشيخ الاديب - أبوعبيد العمروني
¥