ـ[هشام الهاشمي]ــــــــ[04 - 10 - 09, 09:39 ص]ـ
يجيبنا على هذا السؤال الدكتور محمد صلاح أبو حميدة ـ أستاذ البلاغة والنقد المشارك ـ في كتابه: ((البَلاغَةُ وَالأُسُلُوبِيَّةُ عِنَدِ السَّكَّاكِي))، عندما تحدَّث عن الانحرافِ في الصيغِ الطَّلبيةِ فقال: ((ولا شك في أن الانحراف هنا لا يقع على مستوى المفردات، ولا على مستوى التأليف بينها، وإنما على مستوى أوسع يتعلق باختيار الأساليب التعبيرية، حيث يُسْتَخْدَمُ أُسلُوبٌ كلاميٌّ في غير ما وضع له لتناط به مجموعة من الاعتباراتِ الدَّلاليةِ والأسلوبيةِ، وبالتالي فإن المعيارَ الذي يُقاسُ عليه هذا الانحرافُ لا يرجع إلى مثالية المستوى المعجمي، أو المستوى النحوي، وإنما إلى ما يقتضيه ظاهر المقام، فإذا كان المقام مثلاً يقتضي اسْتِعمَالَ جملٍ خبريةٍ تتوقف حَقيقتُها على مطابقةٍ للواقع أو عدمِ مطابقتها له، فإن المبدعَ قد ينحرفُ بلغته عن هذا المقتضى للجمل الخبرية إلى جمل إنشائية طلبية ذات طبيعة مغايرة ليؤدي من خلالها وظيفة أسلوبية معينة يعجز عن أدائها لو أجرى الكلام على مقتضى الظاهر.
لهذا رأى السَّكاكيُّ أن كثيراً ما يوضع الخبرُ في موضعِ الطلبِ لاعتباراتٍ تتصل بحال المتلقي في معظم الأحيان كأن تحمله على التفاؤل بوقوع الطلب فتدخل إلى نفسه السرور والارتياح، كما إذا قيل لك في مقام الدعاء ((أعاذك الله من الشبهة، وعصمك من الحيرة، ووفقك للتقوى))، ليتفاءل بلفظ الماضي على عدها من الأمور الحاصلة التي حقها الإخبار عنها بأفعال ماضية.
فسياق الدعاء يقتضي من المتكلم أن يستخدم فعل الأمر الذي يحمل معنى الدعاء فيقول: ((اللهم أعذه من الشبهة، وأعصمه من الحيرة، ووفقه للتقوى))، لكن هذه الصيغة محمولة على الطلب المرجو وقوعه، ومن ثم فإن أثرها لا يبلغ في نفس المتلقي ما يبلغه أثر الجملة الماضية التي تدل على حصول الفعل، وعدم الشك في وقوعه (21)، لذا فإن استخدام الجملة الخبرية التي فعلها ماض في موضع الجملة الإنشائية الدعائية حمل معنىً زائداً إلى المتلقي تمثل في الدعاء أولاً، وفي تَحَقُّقِ هذا الدعاء ضمناً على سبيل التفاؤل ثانياً.
وإسداء التفاؤل إلى المتلقي من الاعتبارات التي يحرص عليها المتكلم، حتى ولو كانت ادعاء لا واقعاً، لجذب انتباهه، وتحاشي فتوره أو انصرافه على نحو ما ... )).اهـ (ص 147).
قلت: وهذا الكلام غاية في البيان والجمال فالبلاغة العربية سياحة في بطون الكلم، وبطون الكلم محاريب المعاني، وكم في محاريب المعاني من لطيف معنىً (؟).
فهذا الانحراف يكشف لنا عن سر لطيف، لا يفقهه كثير من الناس اليوم، وإن كان يجري على ألسنتهم إلا إنهم لا يفقهونه.
نأتي الآن بعد هذا البيان لنقف على حقيقة ((الكلمات النافعات)) لنعرف معناها، وحكمها بلاغياً:
قلت: (بَطَلَ سِحْرُكُمْ) .. (حُلَّتْ عُقَدُكُمْ) .. (فُكَّ رَبْطُكُمْ) .. (بَطَلَ كيَْدُكُمْ) .. (تَفَرَّقَ جَمْعُكُمْ) .. (شَاهَتْ وُجُوهُكُمْ).
هذه الجمل على ضوء ما قد سبق؛ هل هي إخبارية لفظاً ومعنىً، أم أنها إنشائية دعائية طلبية (؟؟).
وأقول وبالله التوفيق: هذه الجمل إنشائية دعائية طلبية، طلب، ودعاء بإبطال سحر، وحل عقد، وفك ربط، وإبطال كيد، وتفريق جمع، وتقبيح وجوه.
فعندما يدعو الداع ـ المريض المسحور ـ ويخاطب شياطين السحر المتسلطين على جسده في نفسه بقول: (بَطَلَ سِحْرُكُمْ) .. (حُلَّتْ عُقَدُكُمْ) .. (فُكَّ رَبْطُكُمْ) .. (بَطَلَ كيَْدُكُمْ) .. (تَفَرَّقَ جَمْعُكُمْ) .. (شَاهَتْ وُجُوهُكُمْ)، فإنما هو يدعو الله عليهم، فجملة: (بَطَلَ سِحْرُكُمْ)، هذه جملة خبرية لفظاً، إنشائية معنى دعائية طلبية.
وجملة: (حُلَّتْ عُقَدُكُمْ)، هذه جملة خبرية المبنى، إنشائية المعنى، هذا دعاء وطلب.
إذن هذا دعاءٌ، وتفاؤل، دعاء على الظالم، بتفرق جمعه، وذهاب كيده، وتفاؤل بوقوع وتحقق هذا الدعاء، فيتأذَّى العدو، ويسقط في يده، وتتفاءل نفس المريض وتقوى، ويعظم الرجاء.
¥