القول الثاني: وهو مذهب الحنفية ورواية عن أحمد أنه طهور، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، إلا أن الحنفية يشترطون أن لا يكون التغيير عن طبخ، أو عن غلبة أجزاء المخالط حتى يصير ثخينا، والقول بأنه طهور هو الصواب، فما دام يسمى ماء ولم يغلب عليه أجزاء غيره كان طهورا، لأن الله تعالى قال {فلم تجدوا ماء} وهو نكرة في سياق النفى، فيعم كل ما هو ماء، ولا فرق في ذلك بين نوع ونوع، ولا بين المتغير تغيرا أصليا أو طارئا، ولا بين المتغير تغيرا يمكن الاحتراز منه أو لا يمكن، ويدل لذلك ما يلي:
1 - أنه لو وكله في شراء ماء، أو حلف لا يشرب ماء أو غير ذلك، لم يفرق بين هذا وهذا، وهذا يدل على أن الكل داخل في جنس الماء.
2 - أنه ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) والبحر متغير الطعم تغيرا شديدا لشدة ملوحته، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن ماءه طهور مع هذا التغير كان ما هو أخف ملوحة منه أولى أن يكون طهورا، وإن كان الملح وضع فيه قصدا، إذ لا فرق بينهما في الاسم من جهة اللغة.
2 - أنه ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل المحرم بماء وسدر، وأمر بغسل ابنته بماء وسدر، وأمر الذي أسلم أن يغتسل بماء وسدر، ومن المعلوم أن السدر لابد أن يغير الماء، فلو كان التغير يفسد الماء لم يأمر به.
3 - أن النبي صلى الله عليه وسلم: توضأ من قصعة فيها أثر العجين، ومن المعلوم أنه لابد في العادة من تغير الماء بذلك، لاسيما في آخر الأمر، إذا قل الماء وانحل العجين.
4 - أن المانعين مضطربون اضطرابا يدل على فساد أصل قولهم، فمنهم من يفرق بين الكافور والدهن وغيره، ويقول: إن هذا التغير عن مجاورة لا عن مخالطة، ومنهم من يقول: بل نحن نجد في الماء أثر ذلك، ومنهم من يفرق بين الورق الربيعي والخريفي، ومنهم من يسوي بينهما، ومنهم من يسوى بين الملحين: الجبلي والمائي، ومنهم من يفرق بينهما، وليس على شئ من هذه الأقوال دليل يعتمد عليه، فدل ذلك على ضعف هذا القول.
وإذا تغير الماء بمجاورة طاهر كالدهن والطاهرات الصلبة كالعود والكافور، فهو طهور عند الجمهور، لأن هذا التغيير إنما هو من جهة المجاورة فلا يضر، وقال بعض الشافعية إنه طاهر.
القسم الخامس: الماء المختلط بنجس، وقد اتفق الفقهاء على أن الماء إذا خالطته نجاسة وغيرت أحد أوصافه كان نجسا سواء أكان الماء قليلا أم كثيرا، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، أما إذا لم تتغير أوصافه فاختلف العلماء على أقوال:
القول الأول: أنه لا ينجس، وهو الراجح، وهو قول أهل المدينة، ورواية المدنيين عن مالك وكثير من أهل الحديث، وإحدى الروايات عن أحمد، اختارها طائفة من أصحابه، ونصرها ابن عقيل، واستدلوا بما يلي:
1 - أن الله أباح الطيبات وحرم الخبائث، فإذا كانت صفات الماء وغيره صفات الطيب دون الخبيث، وجب دخوله في الحلال دون الحرام.
2 - ثبت من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: (أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال: الماء طهور، لا ينجسه شيء) وهذا اللفظ عام في القليل والكثير، وهو عام في جميع النجاسات.
3 - أنه لو وقع خمر في ماء واستحالت، ثم شربها شارب لم يكن شاربا للخمر، ولم يجب عليه حد الخمر إذ لم يبق شيء من طعمها ولونها وريحها، ولو صب لبن امرأة في ماء واستحال حتى لم يبق له أثر وشرب طفل ذلك الماء، لم يصر ابنها من الرضاعة بذلك.
القول الثاني: أنه ينجس قليل الماء بقليل النجاسة، وهي رواية البصريين عن مالك، وحدد المالكية القليل بأنه إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه فهو قليل، وإن لم يتغير فهو كثير.
القول الثالث: أنه يفرق بين القلتين وغيرهما، وهو مذهب الشافعي، ومذهب الحنابلة عند المتأخرين، واستدلوا بما يلي:
1 - بحديث (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) [حم 4591، ت 67، ن 52، د 63، جه 517، دمي 732، عن ابن عمر، وقال الألباني: صحيح وفيه خلاف في صحته والصواب أنه صحيح] فهذا دليل على التفريق بين القليل والكثير، وأن القليل يحمل الخبث.
وأجيب عن هذا الاستدلال من وجوه:
¥