أولها: إن نجاسة ما دون القلتين مأخوذة من المفهوم والمفهوم لا عموم له، فيصدق بصورة واحدة، ومفهوم حديث القلتين وهو إذا كان دون القلتين تنجس أو حمل الخبث يصدق فيما لو تغير بنجاسة بالإجماع فيكون المفهوم معمولا به، وعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) على أصله.
ثانيها: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن الحال الواقعة وأنه إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ومفهومه أنه إذا كان دون ذلك فهو مظنة حمل الخبث، فإن وجدت المظنة رتب عليها الحكم وهو التنجس والمظنة لا تحصل إلا بتغير أحد الأوصاف.
ثالثها: في الحديث إشارة إلى أن العلة في التنجس هو حمله للخبث فوجب أن تكون هذه العلة هي الأصل في الباب، سواء أكان الماء قليلا أم كثيرا.
رابعها: إنه يلزم على ذلك أنه إذا سقطت قطرة بول في ماء دون القلتين بقليل تنجس وإن لم يتغير، وإذا سقط رطل بول في قلتين ولم يتغير الماء لم يتنجس، وهذا محال أن تأتي الشريعة بنظيره.
خامسها: إن القلة غير منضبطة، حتى عند من قال هي قلال هجر، لأن قلال هجر منها الصغير ومنها الكبير، ثم لا دليل على أن القلة هي قلة هجر إلا حديث ضعيف، وحديث المعراج في قوله - صلى الله عليه وسلم - عن سدرة المنتهى (فإذا نبقها مثل قلال هجر) وليس فيه دلالة لأنه لا رابط بين الحكمين، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يحكي عن الواقع وهو أن نبقها مثل قلال هجر، لا لأن قلال هجر هي المعروفة المشهورة دون غيرها، وهذا كقوله عندما مثَّل بعض الأشجار إنها كأشجار في الشام تدعى الجوزة فلا يعني هذا أن الجوزة هي المعروفة بل النخلة أشهر منها، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحكي الواقع، فخواص العلماء مختلفون في تقدير القلة فما بالك بالعوام.
قال ابن القيم - رحمه الله -:" والاحتجاج بحديث القلتين مبني على ثبوت عدة مقامات: الأول: صحة سنده، الثاني: ثبوت وصله وأن إرساله غير قادح فيه، الثالث: ثبوت رفعه وأن وقف من وقفه ليسس بعلة، الرابع: أن الاضطراب الذي وقع في سنده لا يوهنه، الخامس: أن القلتين مقدرتان بقلال هجر، السادس: أن قلال هجر متساوية المقدار ليس فيها كبار وصغار، السابع: أن القلة مقدرة بقربتين حجازيتين، وأن قرب الحجاز لا تتفاوت، الثامن: أن المفهوم حجة، التاسع: أنه مقدم على العموم، العاشر: أنه مقدم على القياس الجلي، الحادي عشر: أن المفهوم عام في سائر صور المسكوت عنه، الثاني عشر: أن ذكر العدد خرج مخرج التحديد والتقييد، الثالث عشر: الجواب عن المعارض ومن جعلها خمسمائة رطل احتاج إلى مقام، رابع عشر: وهو أنه يجعل الشيء نصفا احتياطا، ومقام خامس عشر: أن ما وجب به الاحتياط صار فرضا " ا. هـ
2 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا)، ووجه الدلالة أن النهي عن إدخال اليد إنما هو لئلا يتنجس الماء القليل.
وأجيب بأنه لا دلالة فيه لمن ذهب إلى أن الماء القليل ينجس، لأن الحديث ليس فيه تصريح ولا إشارة إلى نجاسة الماء بل القول بنجاسته من أشذ الشاذ، وكذا القول بطهارته دون طهوريته ضعيف، ثم إن الطهارة ثابتة بيقين فلا تزول بالشك.
3 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا أولاهن بالتراب) فأمره بغسله دليل على تنجسه بمجرد الملاقاة.
وأجيب بأن الحديث ليس فيه دلالة على التحديد بالقلتين، والصواب أنه محمول على ما إذا ولغ في الآنية المعتادة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - (في إناء أحدكم) وهذا هو الحمل الصحيح، أما حمله على ما دون القلتين فضعيف وبعيد.
القول الرابع: الفرق بين البول والعذرة المائعة وغيرهما، فالبول والعذرة المائعة تنجس الماء بمجرد الملاقاة ولو كان كثيرا، إلا إذا كان يشق نزحه فهو طهور ما لم يتغير، أما غير البول والعذرة المائعة فإنها لا تنجس الماء إذا كان كثيرا ما لم يتغير، وتنجسه إذا كان قليلا بمجرد الملاقاة، وضابط الكثير هو القلتان، وهذا مذهب الحنابلة عند أكثر المتقدمين والمتوسطين.
¥