واستدلوا بأدلة القول الثالث، واستدلوا على استثناء البول والعذرة المائعة، وأنها تنجس الماء بمجرد الملاقاة بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في الماء الدائم وعن الاغتسال فيه، وهذا يدل على أنه الماء ينجس بمجرد ملاقاة البول والعذرة المائعة.
وأجيب بما قاله شيخ الإسلام أن:" نهيه عن البول في الماء الدائم لا يدل على أنه ينجس بمجرد البول، إذ ليس في اللفظ ما يدل على ذلك، بل قد يكون نهيه سدا للذريعة، لأن البول ذريعة إلى تنجيسه، فإنه إذا بال هذا ثم بال هذا تغير الماء بالبول، فكان نهيه سدا للذريعة، أو يقال: إنه مكروه بمجرد الطبع لا لأجل أنه ينجسه.
وأيضا فيدل نهيه عن البول في الماء الدائم أنه يعم القليل والكثير فيقال لصاحب القلتين: أتجوز بوله فيما فوق القلتين؟ إن جوزته فقد خالفت ظاهر النص، وإن حرمته فقد نقضت دليلك.
وكذلك يقال لمن فرق بين ما يمكن نزحه وما لا يمكن: أتسوغ للحجاج أن يبولوا في المصانع المبنية بطريق مكة؟ إن جوزته خالفت ظاهر النص، فإن هذا ماء دائم والحديث لم يفرق بين القليل والكثير وإلا نقضت قولك.
وكذلك يقال للمقدر بعشرة أذرع: إذا كان لأهل القرية غدير مستطيل أكثر من عشرة أذرع رقيق أتسوغ لأهل القرية البول فيه؟ فإن سوغته خالفت ظاهر النص، وإلا نقضت قولك "
القول الخامس: أن الماء ينجس بملاقاة النجاسة، سواء أكان قليلا أم كثيرا، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، لكن إذا لم يصل إليه – أو يخلص إليه – فإنه لا ينجسه، ثم حدوا ما لا يصل إليه: بما لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر، فهذا الكثير عندهم، والقليل ما يتحرك طرف منه يتحرك الطرف الآخر، واختلفوا في جهة التحريك فروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يعتبر التحريك بالاغتسال من غير عنف، وروى محمد عنه أنه يعتبر التحريك بالوضوء، وفي رواية باليد من غير اغتسال ولا وضوء.
القول السادس: قول أهل الظاهر، الذين ينجسون ما بال فيه البائل، دون ما ألقى فيه البول، ولا ينجسون ما سوى ذلك إلا بالتغير.
وهذا القول ضعيف، قال شيخ الإسلام:" وأما من فرق بين البول فيه وبين صب البول فقوله ظاهر الفساد، فإن صب البول أبلغ من أن ينهى عنه من مجرد البول، إذا الإنسان قد يحتاج إلى أن يبول، وأما صب الأبوال في المياه فلا حاجة إليه. "
ومنشأ الخلاف هو أن اختلاط الخبيث - وهو النجاسة - بالماء هل يوجب تحريم الجميع، أم يقال: بل قد استحال في الماء، فلم يبق له حكم.
ـ[أبو علي المالكي]ــــــــ[17 - 11 - 09, 11:29 ص]ـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فالمسألة طويلة الذيل جدا، ولكل من الفريقين حجج يحتج بها، وعلى كل فإني أظن أن محل النزاع في المسألة في قوله تعالى: وينزل عليم من السماء ماء "، هل هذا الماء المطلق الذي وصف الله بالتطهير هو الماء المطلق عن الإضافة، أو المطلق عن الصفة، فمن رأى أن الإطلاق إنما هو عن الإضافة رأى القسمة ثنائية: ماء طهور يصدق عليه اسم الماء، ولو تغيرت بعض أوصافه بالطاهر المخالط، فهو طاهر مطهر ما صدق عليه اسم الماء، وماء خالطته نجاسة فغيرت له وصفا من أوصافه، أو غلب عليه طاهر حتى سلب عنه اسم الماء بإطلاق فلا يسمى ماء إلا بقيد كماء الزهر. فهذا غير مطهر.
أما من قال بإن الإطلاق المقصود به الخلو عن الصفة صارت قسمة الماء عنده ثلاثية:
ماء مطلق، وهو الذي بقي على أصل خلقته، ويلحق به ما تغير بما يشق الاحتراز منه.
ماء أصيف إليه طاهر ينفك عنه غالبا، فغير له وصفا أو أكثر، فهذا صار طاهرا غير مطهر، لأنه الله وصف المطلق بالطهورية لا غير.
وماء خالطته نجاسة فغيرته، والحقيقة أن المذهب الأول أيسر على الناس وأقل اضطرابا من الثاني، فإن لأصحاب المذهب الثاني اضطرابا عظيما قد يشوش على العوام أمر طهارتهم، وذلك لكثرة اختلافهم فيما يشق الاحتراز منه وما لا يشق، وقد بدأت بتلخيص التوضيح على جامع الأمهات وإليكم الملخص في أحكام المياه
باب الطهارة: ص. المياه أقسام، المطلق طهور: وهو الباقي على أصل خلقته.
¥