نعم. أتوقع أن يقول أحدكم أو بعضكم: كنت تتحدث عن طفل بدأ دراسته وسنه ست سنوات، ورجل أمي أو امرأة أمية، ما ذا تريد منا نحن وقد بلغنا من الأعمار الأربعينات أو الثلاثينات، أو العشرينات، وقد تخرجنا في الكليات، أو على الأقل حملنا الشهادة التوجيهية، نحن قد قرأنا وكتبنا، وأصبحنا مثقفين، أتريد أن تعيدنا إلى أطفال وأميين، ماهذا يا دكتور؟!
وأقول: على رسلكم أيها الأحباب، فقد عانيت من صعوبة القراءة، ولا زلت أعاني. القراءة سهلة؟ نعم. والقراءة صعبة؟ نعم. كيف؟!
جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما أراد الله أن يخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وكان قد حبب إليه التعبد في غارحراء، تمهيدا للتكليف الإلهي له بالوحي والرسالة والبلاغ المبين.
فقال له جبريل: (اقرأ) فقال: (ما أنا بقارئ!) يعني لا أجيد القراءة، لأني لم أتعلمها. فقال له: (اقرأ) فقال: (ما أنا بقارئ!) ... فغطه جبريل حتى بلغ منه الجهد ... ثم قال له: ((اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم.))
فقرأها صلى الله عليه وسلم ... والقصة في الصحيحين، وهي في أول صحيح البخاري في باب بدء الوحي، وفي تفسير سورة العلق.
ثم لما لم يكن صلى الله عليه وسلم يكتب، وقد علم أنه مكلف من الله القيام بالدعوة والبلاغ المبين بهذا القرآن، أحس بثقل المسؤولية، وحاول الاجتهاد في حفظ ما كان يقرأ عن طريق جبريل.
فكان يحرك لسانه في عجلة لحفظ كتاب الله، فخفف الله عنه، ووعده بحفظه بدون أن يتعب نفسه ذلك الإتعاب المعتاد لمن أراد الحفظ: ((لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآن))
هذا يدل على أن القراءة النافعة، تحتاج إلى جهد وصبر، والذي لا يجتهد ولا يصبر، لا يصل غالبا إلى هدفه من القراءة.
وأعود فأقول: إن القراءة العادية –أي قراءة الحروف والجمل والمصطلحات بدون تأمل ولا تعقل-سهلة، ولا صعوبة فيها.
وهذه ممكنة في التصفح العام، لمعرفة العناوين، أو موضوعات الأبواب والفصول ونحو ذلك، والقراءة السريعة لبعض الموضوعات للاطلاع العام على أفكارها وفقراتها ....
والقراءة صعبة في أحوال كثيرة:
منها قراءة الحفظ، كحفظ القرآن الكريم، وحفظ متون العلم، لمن يريد أن يكون طالب علم، يستحضر قواعد العلم الذي يدرسه، كعلم النحو والصرف، والبلاغة، وأصول الفقه، والفرائض، ونحو ذلك من العلوم التي تضيع إذا لم يحفظ الطالب قواعدها الأساسية، ويتمرس عليها حتى يصبح فهمها وتطبيقها عنده مَلَكَةً. وسلوا عن هذا حفظة القرآن الكريم، وبخاصة أئمة المساجد، وسلوا كبار علماء الإسلام، الذين تضلعوا في العلوم الإسلامية.
ومنها قراءة الفهم والفقه-أي فقه معاني ما يقرأ-بحيث لا يمر القارئ بجملة أو فقرة دون أن يكون قد فهمها وفقه معناها، وهذه القراءة يحتاج إليها كل قارئ لكل علم من العلوم، سواء كانت شرعية أو لغوية، أو كونية، طبية، أو فلكية، أو جغرافية، أو رياضية ...
ولا بد للقارئ هنا من توقف أمام بعض الجمل أو المصطلحات، توقفا يناسب سرعة الفهم أو بطأه، وقد يحتاج إلى تكرار القراءة حتى يفهمه فهما صحيحا، وقد يحتاج إلى وضع علامات تحت أو فوق بعض الجمل، وقد لا يتمكن القارئ من فهم المعنى –أحيانا- بنفسه، فيضطر إلى الاستفادة من أستاذه المتخصص في العلم.
وإذا تساهل القارئ في الفهم الصحيح لما يقرأ من هذا النوع، فقد يترتب على فهمه من السلبيات ومن الأخطار ما يندم عليه، كأن يفهم النفي مما يجب أن يفهم منه الإثبات أو العكس، وليتصور أنه فهم الإثبات في المنفي، أو النفي في المثبت في موضوع يتعلق بدواء مريض، ماذا سيحدث من جراء هذا الفهم؟ وهكذا في الأحكام الشرعية ....
وإن فهم جملة واحدة فهما صحيحا، قد يكون سببا لفهم باب كامل أو فصل أو موضوع، وعدم فهم جملة واجدة، قد يترتب عليه عكس ذلك.
¥