تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب فقال له: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] والحمد لله القائل نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1] وقال عز وجل: خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:3 - 4] قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في مفتاح دار السعادة: ثم تأمل نعمة الله على الإنسان بالبيانين، البيان النطقي، والبيان الخطي، فقال في أول سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1 - 5] التعليم بالقلم الذي هو من أعظم نعمه على عباده، إذ به تخلد العلوم وتثبت الحقوق وتعلم الوصايا وتحفظ الشهادات، ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس، وبه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين، ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض، واندرست السنن، يعني: ذهبت واضمحلت، وتخبطت الأحكام ولم يعرف الخلف مذاهب السلف، وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم، ما يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم، لما صار الناس ينسون من نعمة الله عليهم أن جعل لهم الكتاب وعاء حافظاً للعلم من الضياع، كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان، فنعمة الله عز وجل بتعليم القلم بعد القرآن من أجل النعم، فهو الذي علم الإنسان الكتابة، علمه ما لم يعلم، علمه الكلام فتكلم، وأعطاه الذهن الذي يعي به، واللسان الذي يترجم به، والبنان الذي يخط به، فكم لله من آية نحن عنها غافلون في تعليمنا بالقلم! وأنزل الله أعظم كتاب، فدعانا رسوله إلى القراءة فيه، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف).

اهتمام السلف بقراءة الكتب:

ثم دونت السنة، والعلم والفقه، وكان لهذه الكتب التي دون فيها العلم بالأقلام، كان لها في نفوس علمائنا أثراً عجيباً ومكانة عظيمة. قال أصحاب ابن المبارك له: ما لك لا تجالسنا؟ فقال ابن المبارك: أنا أذهب فأجالس الصحابة والتابعين، وأشار بذلك أنه ينظر في كتبه، وكان الزهري رحمه الله قد جمع من الكتب شيئاً عظيماً، وكان يلازمها ملازمة شديدة، حتى إن زوجته قالت: والله إن هذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر. وكان العلماء يحسبون عند تفصيل ثيابهم حساب الكتب، فهذا أبو داود رحمه الله، كان له كُم واسع -وكان الكُم يستخدم كالجيب- وكُم ضيق، فقيل له في ذلك فقال: الواسع للكتب والآخر لا يحتاج إليه، وكان منهم من إذا أصابه مرض من صداع أو حمى، كان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة قرأ فيه، فإذا غلب عليه الصداع ترك الكتاب، فدخل عليه الطبيب يوماً، وهو على هذه الحال يأخذ الكتاب متى استطاع أن يقرأ ويدعه إذا غلبه الصداع، فلامه على ذلك. وكان سلفنا وعلماؤنا رحمهم الله يقرءون في الكتب على كل أحيانهم، فكان الخطيب البغدادي يمشي وفي يده جزء يطالعه، وكانوا يقرءون عند الاضطجاع، وينفلت الكتاب من يد أحدهم مرة أو مرتين أو أكثر فيعود إليه، فيأخذه، يسقط من النعاس ويعود إليه فيأخذه، وكان البخاري رحمه الله يقدم له الطعام، طعام الإفطار مثلاً وهو يقرأ ثم تأخذه الخادمة بعد فترة، فتأخذ الطعام ولم يمسه، لم ينتبه أصلاً أن الطعام قد جاء، ثم يأتي وقت الغداء، فيوضع له الطعام وهو يقرأ، وتأتي بعد فترة فتأخذ الطعام ولم يمسه؛ لأنه لم يدر أن الطعام وضع ولا أنه، وبعضهم كان يجلس يقرأ في الظل فينحسر عنه، وتأتي عليه الشمس وهو لا ينتبه. قال ابن الجوزي رحمه الله: وإني أخبرك عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتاباً لم أره فكأني وقعت على كنز، فلو قلت: إني قد طالعت عشرين ألف مجلد لكان أكثر، وأنا بعد في طلب الكتب، فاستفدت بالنظر فيها ملاحظة سير القوم وقدر هممهم، وحفظهم، وعاداتهم وغرائب علوم لا يعرفها من لم يطالع. أرسل أحد الخلفاء في طلب أحد العلماء، ليأتيه فاعتذر إليه، بأن عنده قوماً من الحكماء يحادثهم، ثم عرف الخليفة أنه لم يكن عنده أحد، فعاتبه وسأله: من الذي كان عندك؟ فقال:

لنا جلساء ما نمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهدا

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير