.. قلتُ: فإذا تقرر هذا فلا التفات لما ذكره أهل الغلو، والبدع من الحكايات المكذوبة من أن الإمام أحمد تبرك بالشرب من ماء غسيل قميص الإمام الشافعي، وأن الإمام الشافعي تبرك بقبر أبي حنيفة. يقول الشيخ أبو بكر الجزئري: ـ بعد سياقه لهذه الحكايات المكذوبة ـ: وهل يصح هذا الافتراء على الإمامين الجليلين الشافعي وأحمد؟. اهـ.
وقال العلامة ابن رجب في الحِكَم الجَدِيرة بالإذاعة (المجموع 1/ 252)
كذلك المبالغة في تعظيم الشيوخ وتنزيلهم منزلة الأنبياء هو المنهي عنه.
وقد كان عمر وغيره من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم يكرهون أن يطلب الدعاء منهم ويقولون "أنبياء نحن؟ "
فدل على أن هذه المنزلة لا تنبغي إلا للأنبياء عليهم السلام، وكذلك التبرك بالآثار فإنما كان يفعله الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا يفعلونه مع بعضهم بعضا، ولا يفعله التابعون مع الصحابة، مع علو قدرهم.
فدل على أن هذا لا يفعل إلا مع النبي صلى الله عليه وسلم مثل التبرك بوضوئه وفضلاته وشعره وشرب فضل شرابه وطعامه.
وفي الجملة هذه الأشياء فتنة للمعظّم والمعظّم لما يخشى عليه من الغلو المدخل في البدعة. وربما يترقى إلى نوع من الشرك. كل هذا إنما جاء من التشبه بأهل الكتاب والمشركين الذي نهيت عنه هذه الأمة.
وفي الحديث الذي في السنن: " ان من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، والسلطان المقسط، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه ". فالغلو من صفات النصارى، والجفاء من صفات اليهود، والقصد هو المأمور به.
وقد كان السلف الصالح ينهون عن تعظيمهم غاية النهي كمالك الثوري وأحمد. وكان أحمد يقول: من أنا حتى تجيئون إلي؟ اذهبوا اكتبوا الحديث، وكان إذا سئل عن شيء، يقول: سلوا العلماء. وإذا سئل عن شيء من الورع يقول: أنا لا يحل لي أن أتكلم في الورع، لو كان بشر حياً تكلم في هذا.
وسئل مرة عن الإخلاص فقال: اذهب إلى الزهاد، إي شيء نحن تجيء إلينا؟
وجاء إليه رجل فمسح يده وثيابه ومسح بهما وجهه، فغضب الإمام أحمد وأنكر ذلك أشد الإنكار وقال: عمن أخذتم هذا الأمر؟
فانظر إلى هذا النص الجليل في إنكار مثل هذا العمل، الذي هو أخف بكثير من غسل القميض وشرب مائه فهو عمل تنفر منه الطباع السليمة فكيف بسادات الأئمة؟
يشرب غسالةَ قميصِ رجلٍ مثله فيها عرقه، ووسخ جلده مضى عليها أكثر من شهر في السفر من العراق ومصر ثم يشربها!
- أما قولك أخي الكريم: عندي استشكال:إذا كان كل نقل عن الإمام أحمد يخالف ما عليه أئمة الدعوة رحمهم الله ننكره ثم نطعن في الإقناع والمنتهى في كثير من النقولات وهما عمدة المتاخرين وهم أعلم منا بأقوال الإمام فمن أين نأخذ مذهب أحمد إذن.
أقولُ: بارك الله فيك أئمة الدعوة رحمهم الله عرف عنهم مع الجهاد والدعوة إلى التوحيد ... وغيرها، الصدق والورع والإنصاف وهذا ظاهر للعيان.
ومن ثَم كانت عنايتهم بالكتاب والسنة كبيرة جدا، ولم يكن كبار أئمة الدعوة يلتزمون بالمذهب ككثير من المتأخرين بل كانوا يعملون بالراجح من الكتاب والسنة ولذا خالفوا المذهب في مسائل .. وليس كما ذكرتَ بأن كلما خالف عمل أئمة الدعوة ... ننكره لا، وليس الكلام على الإقناع وغيره من كتب المتأخرين بسبب المخالفة لعملهم، بل لوجود المخالفة في هذه الكتب لمذهب الإمام نفسه، ولا يخفى أن متأخري المذاهب توسعوا في أشياء، ,ألحقوا أشياء من البدع والمسائل المرجوحة .. وهذه الأئمة بريئون منها .. وهذا ما قصده الأئمة في الرابط الذي أحلتك عليه .. وكان كلامهم عن تجربه ودراية.
وانظر نص كلام الإمام محمد بن عبد الوهاب: يعرف ذلك من عرفه.
وكلام الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: والمتعصبون لمذاهب الأئمة تجدهم في أكثر المسائل قد خالفوا نصوص أئمتهم، واتبعوا أقوال المتأخرين من أهل مذهبهم، فهم يحرصون على ما قال الآخر، فالآخر؛ وكلما تأخر الرجل أخذوا بكلامه، وهجروا، أو كادوا يهجرون كلام من فوقه؛ فأهل كل عصر إنما يقضون بقول الأدنى فالأدنى إليهم، وكلما بعد العهد، ازداد كلام المتقدمين هجرا ورغبة عنه، حتى إن كتب المتقدمين لا تكاد توجد عندهم، فإن وقعت في أيديهم، فهي مهجورة.
فالحنابلة قد اعتمدوا على ما في الإقناع، والمنتهى؛ ولا ينظرون فيما سواهما، ومن خالف مذهب المتأخرين فهو عندهم مخالف لمذهب أحمد رحمه الله، مع أن كثيرا من المسائل التي جزم بها المتأخرون، مخالفة لنصوص أحمد يعرف ذلك من عرفه، وتجد كتب المتقدمين، من أصحاب أحمد مهجورة عندهم بل هجروا: كتب المتوسطين، ولم يعتمدوا إلا على كتب المتأخرين. اهـ.
أقول: وليس هذا الكلام خاصا في الفقه بل في جميع العلوم فانظر إلى أصول الفقه، ومصطلح الحديث والتفسير وقبل هذا كله العقيدة انظر ما أحدثه المتأخرون في هذه العلوم.
وقولك: ثم نطعن في الإقناع والمنتهى في كثير من النقولات.
كلام العلماء في هذين الكتابين ليس في النقولات حسب بل في جعل هذا المقرر هو المذهب الذي ينسب للإمام أحمد.
وقولك: وهم أعلم منا بأقوال الإمام فمن أين نأخذ مذهب أحمد إذن.
هذه تحتاج إلى تحرير، هل متأخري المذهب اعتنوا بمسائل أحمد وبكلامه، أو كانت عنايتهم بكتب من سبقهم؟!، ثم خرجوا عليها، وقاسوا على المخرج ... وهكذا تولدت مئات المسائل التي لم يتكلم فيها أحمد بحرف.
هذه تحتاج إلى تتبع ودقه،وهو ما قاله الإمامان المتقدم النقل عنهما.
والمطلوب أن يعتني الطالب بالكتاب والسنة، مع استفادته من كتب المذاهب كلها، ويميل مع الدليل حيث مال، ويجعل ذلك جل اهتمامه، ولا يلتزم بمذهب واحد لا يفارقه أبدا.
ومن أراد مذهب أحمد فليراجع مسائله الكثيرة والنقولات الحرفية عنه فهي كثيرة وكذلك كتب قدماء الحنابلة، فهي تنقل كثير من المسائل بلفظه، ويستفيد من كتب الخلاف في المذهب التي تذكر الأقول في المذهب كالإنصاف.
والله أعلم.
¥