قال الحافظ ابن رجب: (من عُلم منه أنّه مع اللقاء لم يسمع ممن لقيه إلا شيئاً يسيراً، فرواياته عنه زيادةٌ على ذلك مرسلةٌ)،ثم ذكر شواهد من عمل الأئمة بهذه القرينة فقال: (كروايات ابن المسيب عن عمر رضي الله عنه، ... وكذلك سماع الحسن من عثمان رضي الله عنه وهو على المنبر يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام، ورواياته عنه غير ذلك مرسلةٌ، وقال أحمد: "ابن جُريج لم يسمع من طاووس ولا حرفاً، ويقول: رأيت طاووس"، وقال أبو حاتم الرازي: (الزهري لا يصحُّ سماعه من ابن عمر رضي الله عنه، رآه ولم يسمع منه، ورأى عبد الله بن جعفر ولم يسمع منه) ()، وأثبت أيضاً دخول مكحول على واثلة بن الأسقع رضي الله عنه ورؤيته له ومشافهته، وأنكر سماعه منه، ... وجعل روايته عنه مرسلةً، وقد جاء التصريح بسماع مكحول من واثلة رضي الله عنه للحديث من وجهٍ فيه نظرٌ ... ) (). وقد أعمل ابن المديني هذه القرينة في رواية سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه حيث أعل ابن المديني روايته عن عمر رضي الله عنه؛ وعلل ذلك بقوله: (لأن سعيداً لم يسمع من عمر إلا حديثاً عند رؤية البيت، وقد روى عنه غير حديث: سمعت، ولم يصح عندي، ومات عمر رضي الله عنه وسعيد ابن ثمان سنين) ().
وفي كلام ابن المديني إشارة إلى أمرين، أولهما: استصغار سن سعيد أن يكون سمع من عمررضي الله عنه شيئاً كثيراً، والآخر: إعلال الأسانيد التي فيها التصريح بالسماع بينه وبين عمر رضي الله عنه في غير الأحاديث المعدودة التي أثبت الحفاظ أنّه سمعها منه ().
ومن تلك القرائن التي يُعملها الأئمة في استعمالهم لهذه العبارة في إعلال الأسانيد:
$ تباعد البلدان، وعدم ثبوت اجتماع الراوي مع شيخه في بلدٍ واحد، وإنْ جاء التصريح بالسماع بينهما في بعض الطرق.
ذكر الحافظ ابن رجب أنّ الأئمة كانوا يستدلون على عدم الاتصال بهذه القرينة فقال: (ومما يستدلُّ به أحمد وغيره من الأئمة على عدم السماع والاتصال أن يروي عن شيخٍ من غير أهل بلده لم يُعلم أنّه رحل إلى بلده، ولا أنّ الشيخ قَدِم إلى بلدٍ كان الراوي عنه فيه.
ونقل مُهنّا عن أحمد قال: "لم يسمع زُرارة بن أوفى من تميم الدراي رضي الله عنه، تميمٌ بالشام، وزُرارة بصري".
وقال أبو حاتم في رواية ابن سيرين عن أبي الدرداء رضي الله عنه: " لقد أدركه، ولا أظنّه سمع منه، ذاك بالشام، وهذا بالبصرة") ().
ومن شواهد عمل الأئمة بهذه القرينة:
قول ابن أبي حاتم الرازي: (سألت أبي عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب، لقي عائشة رضي الله عنه؟ قال: لا، هو كوفي) ()، فعلل باختلاف البلدان قرينةً على عدم السماع، فعائشة مدنية، وابن سعيد كوفي.
والعكس صحيحٌ، قال أبو حاتم: (يُشبه أن يكون زيد بن أبي أُنيسة قد سمع من عُبيد بن فيروز؛ لأنّه من أهل بلده) ().
فاتفاق البلدان واجتماع الراويين في بلد واحد قرينةٌ تشهد للسماع، ولو لم يأتِ إسنادٌ فيه تصريحٌ بالسماع. ولذلك حكم ابن المديني بثبوت لقاء زياد بن علاقة وهو كوفيٌ، لسعدٍ رضي الله عنه الذي كان أميراً على الكوفة في زمن عمر، وعثمان رضي الله عنهم، إضافةً إلى كون زياد بن علاقة كبيراً كما صرحّ بذلك ابن المديني فقال: (زياد - بن عِلاقة - لقي سعداً رضي الله عنه عندي؛ كان كبيراً، قد لقي عدةً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقي المغيرة بن شعبة، وجرير بن عبد الله ... ) ().
ذلك أنّ سعداً رضي الله عنه سنة خمسٍ وخمسين على المشهور ()، وزياد بن علاقة مات سنة خمسٍ وثلاثين ومائة، وقد جاوز عمره المائة كما يقول الحافظ ابن حجر ()، فيكونان قد تعاصرا في الكوفة على الأقل أكثر من عشرين سنةً، وقد قيل للإمام أحمد: (سمع الحسن من عمران؟ قال: ما أُنكره، ابن سيرين أصغر منه بعشر سنين سمع منه) ().
زِدْ على ذلك قرينةُ لقاؤه لعدد من الصحابة رضي الله عنهم ممن تقدمت وفاتهم كالمغيرة رضي الله عنه (50هـ)، وجريرٍ رضي الله عنه (51هـ)، فكلاهما ماتا في منتصف القرن الأول الهجري تقريباً ().
¥