وعَليه؛ فننظر الآن إلى المثال المَذكور: امرأة (حائض) تعلم ابنها الصلاة، بمحاكاة أفعالها وأقوالها الظاهِرَة: هل هذا الفِعل جائِز؟ والإشكال هو في كونها (حائِض)؛ أي: هناك مانِع يمنعها من فِعل (العِبادَة) -وهو التدريب على الصلاة-. ولكن: هل هذا المانِع مانع عام يمنعها من فعل جميع العبادات -التي يدخل فيها التعليم والتدريب على الصلاة-؟! الجواب: لا؛ ألا ترى أنها تذكر الله، وتقرأ القرآن دون مس المُصحَف، بل وأوسع من ذلك: تبر والِدَيها، وتَطيع زوجَها، وتصل رحمها ... وكل ذلك من (العبادات) التي لم يكن (لحَيض) مانِعًا من ممارسَتِها والتَّعَبُّد لله بها.
ولكن الإشكال هنا باقٍ: لأن (لحَيض) مانِع للصلاة باتفاق المُسلمين، وهي الآن تُحاكي أفعال الصلاة تمامًا! نقول: نعم؛ تُحاكي أفعال الصلاة، ولكنها افترقت عن الصلاة الحقيقية التي يمنع الحَيض من ممارستها = بأمرَين:
الأول: النية؛ وهي نية "التحريم"؛ أي: تحريم ما خارج الصلاة بالدخول فيها؛ وهو المعني بقوله (صلى الله عليه وسلم): "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم"؛ أي: تحريم ما يجوز دونها بالدخول فيها، ثم تحليله بالخروج منها.
والثاني: أنه يتخلل هذا التدريب والتعليم -بهذه الصورة من المُحاكاة- الكلام (الأجنبي) الذي ليس هو من جنس الصلاة، والذي هو مِن مُبطلاتها، ولا تصح الصلاة به إلا لناسٍ أو جاهِل. ولا يُتَصَوَّر التعليم بدون الكلام الذي يتخلل الصلاة، كأن تقول لابنها: انظر؛ الآن سأركع، وتقول في الركوع كذا، وانظر كيف أفترش؟ ... وهكذا.
وإلا؛ فلو لم تتكلم أثناء التعليم بكلام أجنبي عن الصلاة؛ فسَيَتَخَرَّج على قولِكم هذا حُكم مُخالِف في مسألة مُناظِرَة؛ صورتها: لو فرضنا أن المرأة التي تُحاكي الصلاة بقصد تعليم ابنها (طاهِرَة): ما حُكم فعلها؟ يعني: بدلاً من أن تُحاكي الصلاة دون نية التَّعَبُّد، لماذا لا تقول لابنها: انظر إليَّ وأنا أصلي، ثم تدخل في الصلاة المفروضة بنية الصلاة؟!
فالحاصِل: أن التزام المرأة الصمت عن الكلام الأجنبي أثناء تدريبها ابنَها الصلاة مِمَّا يبعُد جدًّا!
ولو قُلنا أنها لا تتكلم في الصلاة فالمانِع الأول لا زال قائِمًا؛ وهو انعدام نية التَّعَبُّد لله بهذه الصلاة على الكيفية المَعروفة.
ولذا؛ فلو انعدَمَ هذان المانِعان -النية والكلام الأجنبي- وصلت وهي حائِض؛ فقد حُكي عن الحنفية القَول بتكفير فاعِل مِثل هذا؛ وهو "مَن صلى صلاة اتُفِق على أن الطهارة شرط لها -كالصلوات الخمس-"، وخَرج بقولي "اتُفِق" ما تنازَع العُلماء في عدم اشتراط الطهارة له كسجدة التلاوة. والحاصِل: أن هذا الفِعل حرامٌ بالإجماع -أعني صلاتها وهي حائض بنية الصلاة بالكيفية المَعروفة-.
وفي الأخير أسأل أخَوي الكَريمَين (عصامًا) و (سلطانًا) -وفقهما ربي-:
"لو فرضنا أن امرأة (طاهرة) تريد أن تعلم ابنها الصلاة، فقامت بصورة الصلاة كاملة من ركوع وسجود وغيرها، إلا أن نيتها التعليم لا التعبد.
فهل فعلها هذا عبادة؟ وما حكمه؟ ".
مع مُلاحظة أن الأخ (سلطانًا) -حفظه الله- قد تَوَسَّع في (نَقض) شروط الصلاة -بالكيفية المعروفة- فافترض: عدم استقبال القبلة. وأفترض معه: نجاسة المَكان، وعدم لبس الخِمار ....... وأيضًا: الكلام (الأجنبي) في الصلاة (ابتسامة).
وأما المثال الثاني:
فأقول: سأقلب صُورَة المسألة فأسألكم: "مدرس يجلس مع تلامذته في المَسجِد، ويتلون القرآن مَعًا (بصوت واحد) على هيئة واحدة. هل هذه بدعة؟ ".
فإن قُلتُم: لا؛ فقد خالفتم اعتقادَكم؛ لأني أجزم أن الأخ (عصامًا) يقول ببدعية هذا، وأحسب الأخ (سلطانًا) كذلك -إن شاء الله-.
وإن قُلتُم: نعم؛ فالحمد لله؛ فقد حَكمتُم على الفِعل نَفسه بالبدعة -أعني: الاجتماع على القراءة بصوت واحِد.
وعليه؛ فما حُكِم عليه بالبدعية -من أصله-؛ فالنية التي تُصَيِّره (سُنَّة) و (حَسَنًا) هي نية فاسِدَة، ولا شَكَّ! لأن "المُنكَر أبدًا مُنكَر"، و (البِدْعَة أبدًا بدعة)، إلا أنه يجوز فعلها لمصلحة راجِحَة أو للضرورة، ولا ثَمت ضرورة!
فإن قُلتُم: ولكن النية حسنة باتفاق العُلماء ونصوص الشَّريعَة -وهي تعليم القُرآن وتَجويده-؟!
نقول: إذا كانت النيَّة حَسَنة -وهي كذلك- فلا بُدَّ أن يُسْتَعمَل للوصول إلى (الغاية) منها (وسيلة) مَشروعَة! أعني: أن السَّلف الصالِح من أمة نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) كانوا يعلمون أبناءهم وتلاميذهم القُرآن وأحكام التجويد؛ فننظر كيف كانوا يفعلون، وبهم نكون من المُقتَدِين، نكون من المُفلحين -إن شاء الله تعالى-.
فهل ثَبَت عن السلف الصالِح أنهم كانوا يجتمعون على قراءة القرآن بصوت واحِد بغرض التعليم؟ أعني: مَن قال ببدعية ذلك؛ لأن المسألة خلافية -أصلاً-!
وفي الختام أقول:
(1) لو فَتَحنا هذا الباب؛ وهو باب التَّوَسُّع في الوسائِل بغرض التعليم، وتحبيب الناس في دين رب العالَمين، والدَّعوة إلى الله، و ... = لانفتحت علينا أبوابٌ من البِدْعَة واسِعَة، لا يعلم قدرها إلا علام الغُيوب.
(2) لم يَتَبَيَّن لي ماذا وراء هذين المِثالَين بالضبط؟ هل يقول الأخ (عصام) -حفظه الله- أن ما فعله إخواننا الماليزيون مُباحٌ ومَشروع وحَسَن؟
أم ضَرَب المِثالَين لِهَدم قَولي أن "التدريب على العبادة = عبادة". والأخير هو ما أظُنُّه، لظني الحَسَن بأخي الكريم. ولقد بَيَّنتُ فيما سبَق والآن الأدلة على قَولي هذا.
والحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
¥