وهذا هو القول الراجح الصحيح، فإن عمر رضي الله عنه قد قتل ظلماً وعثمان وعلي وغيرهم، وكانوا يغسلون ويكفنون، ويصلى عليهم، وإن كانوا شهداء، ومع ذلك لم يثبت هذا الحكم فيهم، وإنما ثبت في شهيد المعركة.
بل لو قتل المسلم في أيدي الكفار لكن ذلك عن طريق الاغتيال، ونحوه مما لا يكون فيه قتال ظاهر، فإنه ليس له هذا الحكم.
فعمر قتله أبو لؤلؤة المجوسي، وهو شهيد كما قال صلى الله عليه وسلم لأحد: (اثبت فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) فالصديق أبو بكر والشهيدان عمر وعثمان.
ومع ذلك فإنه – أي عمر – قد كفن كما ورد ذلك في البيهقي وغيره وهو مشهور عنه، وكذلك علي كما في البيهقي وغيره، ولم يخالف في ذلك أحد من أهل العلم.
فعلى ذلك القتيل الذي يقع قتله في غير الصف يبقى على الحكم الأصلي من التغسيل والتكفين.
قال: (إلا أن يكون جنباً)
أي شهيد المعركة لا يغسل إلا أن يكون جنباً.
ودليل ذلك: ما رواه الحاكم بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما قتل حنظلة بن عبد الله بن الراهب قال: (إن صاحبكم تغسله الملائكة فسئلت صاحبته فقالت: " إنه خرج لما سمع الهيعة - الصوت الفزع وهو منادي الجهاد - وهو جنب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لهذا غسلته الملائكة)
قالوا: فهذا دليل على أن الجنب يغسل، فإن الملائكة قد غسلت حنظلة بن الراهب رضي الله عنه.
- وقال المالكية والشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: لا يغسل، وهو القول الراجح.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بما تقدم من أن حنظلة غسلته الملائكة، والملائكة غير مكلفين بغسل الميت، وإنما المكلف هم من علم بحاله من بني آدم، وأما الملائكة فله حكم آخر، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أولياءه أن يغسلوه لكونه جنباً وإنما اكتفى بالخبر أن الملائكة قد غسلته، فهذا خبر من النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يأمر بتغسيله.
والأحاديث المتقدمة التي فيها أن الشهيد لا يغسل أحاديث عامة ممن مات جنباً أو طاهراً.
وكذلك في المرأة تقتل في سبيل الله حائضاً أو طاهراً فإنها لا تغسل – خلافاً للمشهور في المذهب – وأنها إذا ماتت حائضاً فكالجنب يجب غسلها لحديث حنظلة.
والصحيح ما تقدم: وأن من قتل في سبيل الله سواء كان جنباً أو كانت المرأة حائضاً فإنهم لا يغسلون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغسل شهداء أحد وهذا عام في كل شهيد في سبيل الله.
وأما الخبر بتغسيل الملائكة فهذا خبر عمن لم يتوجه إليه الخطاب وهم الملائكة، ولم يوجه – النبي صلى الله عليه وسلم – الخطاب إلا الآدميين من أوليائه أن يغسلوه.
قال: (ويدفن بدمه في ثيابه)
لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد بإسناد صحيح: (زملوه في ثيابه) فيكفن في ثيابه التي قتل فيها.
قال: (بعد نزع السلاح والجلود عنه)
لما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم)، لكن الحديث فيه عطاء بن السائب وقد اختلط فالحديث إسناده ضعيف.
ولكن القائلين به من الحنابلة لم يقولوا به على وجه الإيجاب، وإنما قالوا به على وجه الاستحباب والأولوية.
أي: يستحب أن ينزع عنه الجلد كأن يكون عليه خفان من جلد أو جبة من جلد فإنها تنزع عنه. وكذلك ما يكون عليه من السلاح من درع ونحوه فإنه ينزع عنه والحديث كما تقدم ضعيف.
- وقال المالكية: بل يدفن في ثيابه كلها، وهذا أظهر، لكن السلاح ينبغي استثناؤه للانتفاع به، أو لا فائدة من دفنه مع الميت بل الفائدة في إبقائه لينتفع به، فالسلاح ونحوه مما ينتفع به ينزع عن الميت.
وأما ثيابه سواء كان من جلد أو فرو أو نحو ذلك فإنها تبقى عليه – إلا أن تكون هناك مصلحة راجحة لنزعها منه – كأن تكون للمسلمين حاجة في هذه الثياب لتكفين الموتى بها وعليه مزيد ثياب فإنه يكفن بها غيره.
إذن: المستحب أن يدفن في ثيابه فلا يجدد له كفن.
فإن كفن في غيرها فلا بأس، فقد ثبت في مسند أحمد أن صفية رضي الله عنها: (أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين ليكفن حمزة فيهما فكفنه بأحدهما وكفن بالآخر رجلاً آخر) فإذن: إذا أحب الولي أو غيره أن يكفنه في ثوب آخر فلا بأس بذلك، لكن المستحب أن يكفن في ثيابه التي قتل فيها.
¥