ثم ينقل لنا الفاضل – بعد كلام – صورة عملية لهذا الاحترام والتقدير لأهل العلم من طرف من تحلى بالعلم والفضل، فيقول:
( ... وسأل الإمام الشاطبي أبا العباس القباب الأندلسي عن مسألة أصولية، وهي " مراعاة الخلاف " عند تعارض الأدلة، ونسب السؤال إلى بعض كبار العلماء أنهم استشكلوها، مثل ابن عبد البر، فأسرع أبو العباس هذا – في غفلة من نفسه – إلى إعابة المستشكلين لها، واستشهد بالبيت المشهور:
وكم من عائب قولا صحيحا - - وآفته من الفهم السقيم
فكتب إليه الشاطبي ناصحا، ومبينا أدب البحث الفقهي والإفتاء، فقال – رحمه الله -: " وأنا يا سيدي أستثقل الحوم حول هذه التي تشير إلى استنقاص من تقدم من أهل العلم المستشكلين، إذ منهم أبو عمر ابن عبد البر، وسواه، وإن كانت الإشارة على بُعد، وأنتم أعرف بما فيها منا، وإنما حسن النظر معهم أن يكون على جهة الاستشكال وتوقف الفهم عما أرادوه، فهو أليق بآداب العلماء وأخلاق الفضلاء، وأحرى بتنوير القلب وانشراح الصدر، وأجلب للفائدة في الدنيا والآخرة، والمقصود بعد ذلك حاصل إذا تبين فيه الإشكال وظهر ما هو الصواب، فإن ظهر أن الصواب خلاف ما قالوه؛ التمس لهم أحسن المخارج، وحمل كلامهم على أقرب ما يليق به من مناحي الصحة".
فأسرع الشيخ القباب إلى الاعتراف بالخطأ الذي وقع فيه، وقبل هذه النصيحة بأن أجاب:
" يا أخي – رضي الله عنك – وصلني ما كتبتم لي به فيما سألتموه مما لا ترضونه من جوابي في كذا وكذا، وحصل لي من ذلك في الوقت ما الله المسؤول أن يثيبكم عليه ويعظم به أجوركم، وما أحق المسؤول أن يعود سائلا، والمفيد مستفيدا، فلكم الفضل أو وآخرا، وقد وضح لكم صدق مقالي أني لست أهلا لهذا المقام، ولكني تكلفت الجواب إسعافا لرغبتكم وقضاء لحق صدقكم ... ".
فما ندري أي النورين أجمل، نور الأحرف الأولى للشاطبي التي بينت أدب الخلاف الفقهي واحترام من سبق من العلماء، أم نور أحرف التواضع بالاعتذار؟).
ثم أردف الفاضل قائلا: (ولسنا نطلب من فقهاء .. أن يكونوا ملائكة لا يغضبون، وإنما نتوقع منهم الفلتة حين الغفلة عن مذهب الليث والشاطبي، ولكن المهم أن تكون منهم الفيئة إلى الحق عند ظهوره وقبول التنبيه.
والمفروض أن يكتمل هذا الخلق – من بعد اللين مع الأساتذة والأقران – بخلق ثالث مع التلاميذ والمبتدئين، ووصية الجويني لك ماضية " أن تعامل المبتدئ الذي قصده التبيّن للحق حتى لا تدع من التلطف والتساهل والكشف والبيان والتقريب شيئا إلا وتأتي به، لأنه كلما بالغت في المساهلة معه: ازداد طمعا في تفهم الحق، وازداد حرصا ومواظبة عليه".
فإن كنتَ أنت التلميذ، واعتدى عليك الشيخ باللفظ الخشن، واستعمل القسوة لسبب استفزه أنساه عادته في الحلم والرفق؛ فاصبر وتأول وكن مثل السلف.
فقد سأل عبد الملك بن الماجشون الإمام مالكا عن أمر من دقائق الفقه، فاستكبر منه ذلك، وكأنه استغرب أن لا يعرفه، فقال له: " أتعرف دار قدامة؟ ".
قال القرافي: " ودار قدامة يُلعب فيها بالحمام بالمدينة ".
أي كأنه يقول له: لست أهلا أن تصاحبني، بل شأنك أن تلعب بالحمام مع اللاعبين من العامة والغوغاء والسوقة.
وهذه كلمة كبيرة من مالك في حق إمام من كبار تلامذته، إذ مازال ظن النبلاء إلحاق رداءة الأخلاق بلاعبي الحمام في كل عصر، وهذا من أشد التبكيت، ولعل ابن الماجشون ظل يبلع ريقه ساعات، ويرتجف أسبوعا، ومع ذلك صبر وغفر، وشباب الدعوة اليوم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها لحروف يسيرات من أساتذتهم).
ـ[الفهمَ الصحيحَ]ــــــــ[05 - 10 - 05, 02:16 م]ـ
قال الشيخ محمد عبد الحي الكتاني – رحمه الله- عقب ذكر روايته لحديث الرحمة المسلسل بالأولية عن جماعة من مشائخه - رحمهم الله -: ( .... عن رسول الله صلى الله عليه وآ له وسلم قال: " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " ... ). ثم بعد أن خرجه باختصار قال:
(وتداولته الأمة، واعتنى به أهل الصناعة، فقدموه في الرواية على غيره ليتم لهم بذلك التسلسل كما فعلنا، وليقتدي به طالب العلم فيعلم أن مبنى العلم على التراحم والتوادد والتواصل لا على التدابر والتقاطع، فإذا شب الطالب على ذلك شبت معه نعرة التعارف والتراحم فيشتد ساعده بذلك، فلا يشيب إلا وقد تخلق بالرحمة، وعرف غيره فوائدها ونتائجها فيتأدب الثاني بأدب الأول، وعلى الله في الإخلاص والقبول المعول).