وقال ابن القيم إن التقليد ليس علما، ولا تجوز الفتوى بغير علم لقوله تعالى (ولاتقف ماليس لك به علم) الإسراء، فلا تجوز الفتوى بالتقليد، ثم قال (هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد:
أحدها: أنه لايجوز الفَتْوى بالتقليد: لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام، ولاخلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلد لايُطْلَق عليه اسم عالم، وهذا قول أكثر الأصحاب وقول جمهور الشافعية.
والثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز له أن يقلد غيره من العلماء إذا كانت الفَتْوى لنفسه، ولايجوزأن يقلد العالم فيما يفتي به غيره، وهذا قول ابن بَطَّة وغيره من أصحابنا، قال القاضي: ذكر ابنُ بَطَّة في مكاتباته إلى البرمكي: لايجوز له أن يفتي بما سمع من يفتي، وإنما يجوز أن يقلد لنفسه، فأما أن يقلد لغيره ويفتي به فلا.
والقول الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، وهو أصح الأقوال، وعليه العمل، قال القاضي: ذكر أبو حَفْص في تعاليقه قال: سمعت أبا علي الحسن بن عبدالله النجاد يقول: سمعت أبا الحسين بن بشران يقول: ماأعِيبُ على رجل يحفظ عن أحمد خمسَ مسائل استند إلى بعض سَوَاري المسجد يفتي بها.) (اعلام الموقعين) جـ 1 صـ 45 ــ 46.
ويوافق القول الثالث والذي اختاره ابن القيم ما قاله ابن دقيق العيد رحمه الله (توقيف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم أو استرسال الخلق في أهويتهم، فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين إذا كان عدلاً متمكنا من فهم كلام الإمام ثم حكى للمقلد قوله فإنه يكتفي به، لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي أنه حكم الله عنده، وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا) أهـ، نقله عنه الشوكاني واستنكره خاصة قوله (انعقد الإجماع) وقال الشوكاني إن الذين أجمعوا على هذا هم المقلدون لا المجتهدون، والمقلد ليس عالما فلا عبرة بإجماعه (إرشاد الفحول) صـ 251 ــ 252.
قلت: وهو كما قال الشوكاني، وأضيف أن الإجماع لايصح إذا خالف النص، وقد دلت النصوص على تحريم الفتيا بغير علم أي بالتقليد، فالفتوى بالتقليد لاتجوز في الأصل، وإنما تجوز كاستثناء للضرورة كما قال ابن القيم (يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، وهو أصح الأقوال). وفي هذه الحالة يكون المقلد الذي يفتي ــ كما قال الشيخ عزالدين بن عبدالسلام ــ (بأنه حامل فقه ليس بمفت ولا فقيه، بل هو كمن ينقل فتوى عن إمام من الأئمة، لايشترط فيه إلا العدالة وفهم ماينقله) نقله عنه السيوطي في (الرد على من أخلد إلى الأرض) صـ 92، ط دار الكتب العلمية 1403هـ.
ـ[المختار]ــــــــ[22 - 01 - 03, 02:51 م]ـ
المرحلة الخامسة:
قولك الأخير: (اكثر المعتنين بالحديث اليوم لا يعتنون باقوال الائمة ............ وعليه فالاعتناء بغير الحديث من العلوم أولى)
ليس على اطلاقه فقد قال ابن القيم:
فإن كانت دلالة الحديث ظاهرة بيِّنة لكل من سمعه لايحتمل غير المراد فله أن يعمل به، ويفتي به، ولايطلب له التزكية من قول فقيه أو إمام، بل الحجة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن خالفه من خالفه.
وإن كانت دلالته خفية لايتبين المراد منها لم يجز له أن يعمل، ولايفتي بما يتوهمه مُرادا حتى يسأل ويطلب بيانَ الحديث ووجهه.
وإن كانت دلالته ظاهرة كالعام على أفراده، والأمر على الوجوب، والنهي على التحريم، فهل له العمل والفتوى به؟ يخرج على الأصل وهو العمل بالظواهر قبل البحث عن المعارض، وفيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره: الجواز، والمنع، والفرق بين العام والخاص فلا يعمل به قبل البحث عن المخصص، والأمر والنهي فيعمل به قبل البحث عن المعارض.
وهذا كله إذا كان ثَمَّ نوع أهلية ولكنه قاصر في معرفة الفروع وقواعد الأصوليين والعربية، وإذا لم تكن ثمة أهلية قط ففرضه ماقال الله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا سألوا إذا لم يعلموا، إنما شفاء العِيِّ السؤالُ». وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتبه المفتي من كلامه أو كلام شيخه وإن علا وصعد فمن كلام إمامه، فلأن يجوز اعتماد الرجل على ماكتبه الثقات من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالجواز، وإذا قدر أنه لم يفهم الحديث كما لو لم يفهم فتوى المفتي فيسأل مَنْ يعرِّفه معناه، كما يسأل من
¥