وهذا من غير شكّ تارك للناظم الفرصة واسعة في النَّظْم والتصرف في التعبير بحسب متطلبات المعنى، ولَمَّا كان النظم في المتون العلمية في مسيس الحاجة لهكذا سعة في الجوازات، رُئِي أكثرها منظوماً على هذا البحر هذا الأمر الذي أفاد منه الحافظ العراقي في نظمه للتبصرة فجاءت على هذا البحر بكل أشكاله وتفعيلاته بل لا يكاد بيت يشبه سابقاً له أو لاحقاً في وزن أو ضرب لكثرة ما أفاده من هذا التعدد في أشكال البحر، فقد جاء ضرب البيت الأول (مُسْتَعِلُنْ – ب ب –)، والثاني (مَفْعُوْلُنْ - - -)، والثالث (مُتَفْعِلُنْ ب – ب –)، والرابع (فعولن ب - -)، والخامس (مُسْتَفْعِلُنْ - - ب -) وهكذا دواليك، هذه الإفادة من الحافظ تركت له الفرصة واسعة للتعبير على حساب الجمال الصوتي والتناسب بين الأبيات، فقد جاءت بعض الانتقالات بين هذا الشكل أو ذاك قوية ثقيلة تركت تبايناً صوتياً واضحاً في أذن المستمع، وإن كان مثل هذا مغتفراً في المتون العلمية، إذ ليس من وَكْدِ الناظم فيها جمال الإيقاع بقدر تحقيق الدقة العلمية في وزن صحيح مقبول.
وعوداً إلى بحر الرجز وما يحققه من سعة في التصرف ضمن القالب الشعري، فإنّ التقفية الداخلية المستعملة في المتون العلمية تعدّ شكلاً آخر من أشكال الحرية في صياغة العبارة العلمية في قالب شعري، فالقافية التي طالما كانت شكلاً لازماً في القصيدة العربية تفرض نفسها نمطاً صوتياً يتحكم في صياغة البيت الشعري كلّه الأمر الذي يفرض على الشاعر نهاية صوتية واجبة التحقيق، فضلاً عن الشكل الشعري الواجب أيضاً، لذلك كان في التقفية الداخلية التي استعملها الحافظ العراقي مجالاً للتخلص من هذا القيد - والذي لا تنكر قيمته الصوتية-لأن الدقة في التعبير العلمي مقدمة على الإبداع الصوتي وهذه التقفية التي حقّقت التوافق ما بين عروض البيت وضربه سهَّلت كثيراً حفظ البيت الشعري.
على أن الحافظ العراقي لم يكتفِ بكل ما أتاحه له بحر الرجز من جوازات؛ ليفيد من مبدأ الضرورة الشعرية بشكل واسع جداً، حتى أصبحت الضرورة شيئاً ثابتاً في أبيات " التبصرة "، وهذا يدلّل بشكل واضح على تمكن الحافظ وقدرته على الإفادة مما تتيحه اللغة من ضرورات وإن كان في تكرار بعضها في البيت الواحد ثقل كان يمكن تجاوزه، ومن أبرز الضرورات في نظم الحافظ:
1. إدراج الهمزة، كقوله (78):
في البابِ غيرهُ فذَاكَ عِنْدَهْ
مِنْ رأيٍ اقْوَى قَالَهُ ابنُ مَنْدَهْ
وقوله (139):
مَعْرِفَةُ الرَّاوي بالاخْذِ عَنْهُ
وَقِيْلَ: كُلُّ مَا أتانا مِنْهُ
وقوله (153):
تَدْلِيْسُ الاسْنَادِ كَمَنْ يُسْقِطُ مَنْ
حَدَّثَهُ، وَيَرْتَقِي بِـ (عَنْ) وَ (أنْ)
2. تسكين بعض الحروف المتحركة:
كقوله (82):
كَمُسْنَدِ الطَّيَالِسيْ وَأَحْمَدَا ……………
وقوله (162):
…………… وَلِلْخَلِيْلِيْ مُفْرَدُ الرَّاوي فَقَطْ
3. قصر الممدود،
كقوله (136):
…………… مِنْ دُلْسَةٍ رَاويْهِ، واللِّقَا عُلِمْ
وقوله (170):
…………… خَاتَمَهُ عِنْدَ الخَلا وَوَضْعِهْ
4. صرف الممنوع من الصرف،
كقوله (809):
…………… أو سَهْلٌ او جَابِرٌ او بِمَكَّةِ
وقوله (816):
وَقِيْلَ: إِفْرِيْقِيَّةٍ وَسَلَمَهْ ……………
وقد يجمع الحافظ بين ضرورتين في موضع واحد، كقوله (864):
وَاعْنِ بِالاسْمَا والكُنَى وَقَدْ قَسَمْ ………………
والأصل (بالأسماء) فقصر الممدود وأدرج الهمزة.
وقوله (867):
……………… النُّوْنُ فِي أبي قَطَنْ نُسَيْرُ
فقد سكّن النون من (قطنْ) وأدغمها في نون (نسير).
وقد تتوالى الضرورات في شطر واحد مما يولد ثقلاً في قراءة البيت،
كقوله:
…………… أو سَهْلٌ او جَابِرٌ او بِمَكَّةِ
فقد أدرج الهمزة في موضعين في (أو) الثانية والثالثة مما يجعل البيت مستثقلاً عند قراءته.
وقد يُعَلّق الحافظ – رحمه الله – معنى البيت بالبيت الذي يليه، وهذه ما يسمى بالتضمين، وهو عيب عند العروضيين، كقوله (7، 8):
فَحَيْثُ جَاءَ الفِعْلُ والضَّمِيْرُ
لِوَاحِدٍ وَمَنْ لَهُ مَسْتُوْرُ
كَـ (قَالَ) أو أطْلَقْتُ …
………………… ..
وقوله (51، 52):
يَقْدَحُ فِي أَهْلِيَّةِ الوَاصِلِ أو
مُسْنَدِهِ عَلَى الأَصَحِّ، وَرَأوا
أَنَّ الأصَحَّ: الْحُكْمُ للرَّفْعِ وَلَوْ
¥