وأمّا أنا فيدفعني الفضول لمعرفة من الذي استدل بهذا الحديث من العلماء في جواز الجلوس للعزاء؟
وأمّا بخصوص ما فهمه الأخ ظافر من الحديث فإني أرى أنه قد تكلّف جداً حتى خرج بهذا المعنى، وأظن أنه لم يُسبق إليه.
يا أخ ظافر إن علماء هذه الأمة لم يمنع واحد منهم الاجتماع عند أهل الميت عند مصيبة الموت لكي يعينوهم ويقفوا معهم في مصيبتهم ويؤدوا إليهم حقوقهم، وهذا الأمر معروفٌ قديماً وحديثاً فبمجرّد وصول نبأ الوفاة يهرع الأقارب والجيران والأصدقاء إلى بيت الميت ليقدّموا العون الممكن وليصبّروا أهل الميت ويساعدوهم في أمور التغسيل والتكفين والصلاة والدفن ثم بعد ذلك ينصرفون إلى حوائجهم ويبقى المقرّبون من أهل الميت من أقاربه وذويه ثم بعد ذلك ينصرفون هم أيضاً، وهذا المفهوم من حديث عائشة، ولكن هذا لا علاقة له بمجلس العزاء الذي يقام في الأيام التالية وعلى الهيئة المعروفة!
وأما الدليل الثاني الذي ساقه الأخ ظافر فهو:
الدليل الثاني:
استدلوا بما روته عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قتلُ ابن حارثة و جعفر وابن رواحة جلسَ يُعرفُ فيه الحُزنُ، وأنا أنظرُ من صائر الباب شق الباب، فأتاه رجلٌ فقال: إن نساء جعفر ـ وذكر بكاءهن ـ فأمره أن ينهاهن فذهب، ثم أتاه الثانية لم يطعنه، فقال: إنهَهُن، فأتاه الثالثة قال: والله غلبننا يا رسول الله، فزعمت أنه قال:"فاحثُ في أفواههن التراب"، فقلت: أرغم الله أنفك، لم تفعل ما أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من العَنَاء). انتهى
وأنا أسأل الأخ ظافر: مَنْ استدل بهذا الحديث على جواز مجالس العزاء؟
فقد رواه البخاري واستدل به في باب الجلوس عند المصيبة يُعرف فيه الحزن. قال شارحه: أي جلس حزيناً، وعدل إلى قوله: يُعرف، ليدل على أنه صلى الله عليه وسلم كظم الحزن كظماً. وكان ذلك القدر الذي ظهر فيه من جِبِلَّة البشرية. وهذا موضع الترجمة، وهو يدل على الإباحة لأن إظهاره يدل عليها. نعم إذا كان معه شيء من اللسان أو اليد حرم. انتهى
وكذلك فعل أبو داود، أما الإمام مسلم فقد استدل به في التشديد في النياحة وأما النسائي ففي النهي عن البكاء على الميت.والواضح في الحديث يا أخ ظافر أن الرجل الذي دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعزّه بل جاءه ليخبره ببكاء نساء جعفر عليه فأمره أن ينهاهن عن البكاء. فما وجه الاستدلال؟؟ ثم إنّ كلامنا في مجالس التعزية خاصّة وليس في كل جلوسٍ يجلسه المرء ويمكن أن يُعزّى فيه! فهذا في علمي لم يمنعه أحد.
وأما الأدلة الأخرى التي ساقها الأخ ظافر فهي كما قال: كلها ضعيفة لا تثبت ولا يحتج بها، ومع ذلك فإنه أيضاً تكلّف في تحميلها المعنى الذي يريده وهي لا تحتمله.
ثم ختم الأدلة بقوله: الدليل السادس:
ومما يدل على جواز الاجتماع للتعزية، أن الاجتماع للعزاء من العادات، وليس من العبادات، بناء على الأصل، والأصل في الأشياء الإباحة، وهذا ظاهر من حديث أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن ... الحديث). فقول: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك) أنه كان عادة عندهم، ولم أرَ أحداً من العلماء ـ مع بحثي القاصر ـ قال: إن الاجتماع للعزاء عبادة، ومعلوم أن البدع لا تكون في العادات المحضة، إلا إذا اعتقد بها التقرب إلى الله تعالى، وليس لها أصل في الشرع فهذه العادة تصبح بدعة. انتهى
ثم استشهدَ بقول شيخ الإسلام ابن تيمية: قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ: (فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به، وهو أن المباحات إنما تكون مباحة إذا جعلت مباحات، فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك ديناً لم يشرعه الله).
وأقول: يا أخ ظافر ألا ترى معي أن كلام شيخ الإسلام واضح في حسم المسألة، لأنه كما تعلم أن مجالس العزاء صارت عند الناس من الواجبات والمستحبّات ولذلك قال العلماء عنها إنها بدعة منكرة.
وكذلك قولك في العادات المحضة، فهل هذه المجالس عادات محضة؟ وأنت الذي قلتَ إن التعزية عبادة وسنة ومقصد، وهذه المجالس وسيلة إليها فكيف تجعلها عادات محضة!!!!!!
¥