قال أبو عبدالرحمن: وهذا الذي توصل إليه الإمام الفذ ابن حزم رحمه الله في معنى الإجماع هو ما صوبه كل من: ابن رشد، وابن الوزير اليماني، والشوكاني،
وصديق حسن خان القنوجي، وشلتوت، وعبدالوهاب خلاف، وشيخنا الإمام الألباني، وشيخنا العلامة أبوعبدالرحمن ابن عقيل الظاهري، وشيخنا العلامة عبدالله بن يوسف الجديع وغيرهم.
علل الإمام ابن حزم رحمه الله إنكاره إجماع أهل العصر ممن يجىء بعد الصحابة بقوله: لأن الأعصار
بعد الصحابة رضي الله عنهم من التابعين فمن بعدهم
لا يمكن ضبط أقوال جميعهم ولا حصرُها، لأنهم ملأوا
الدنيا والحمد لله من أقصى السند، و خراسان، وإرمينية،وأذربيجان، وجزيرة العرب، والعراق، والأهواز، وفارس، وكرمان، ومكران، وسجستان، وأردبيل، وما بين هذه البلاد.
ومن الممتنع أن يحيط أحد بقول كل إنسان في هذه البلاد. (النبذ 31ـ 32).
قال ابن حزم في كتابه " الإعراب " (2ورقة 151/ ب):
"يكفي من عظيم خلافهم للإجماع أنه لا يختلف أحد ممن له أقل علم بالأخبار من مسلم وكافر أنه لم يكن قط في عصر الصحابة واحد فما فوقه يأتي إلى قول صاحب أكبر منه فيأخذه كما هو ويترك قول غيره فلا يلتفت إليه
ثم لا يختلف اثنان في أنه لم يكن في عصر التابعين واحد فما فوقه عمد إلى أقوال تابع أكبر منه أو صاحب فأخذها كما هي ودان الله تعالى بها وترك قول من سواه
ثم لا يختلف اثنان في أنه لم يكن قط في عصر تابعي
التابعين واحد فما فوقه عمد إلى أقوال تابع أو صاحب فأخذها كما هي وضارب دونها كل ما سواها.
هذا إجماع من جميع الصحابة كلهم وجميع التابعين أولهم عن آخرهم وجميع تابعي التابعين لا خلاف فيه
عن أحد منهم، فهذا هو الإجماع التام المقطوع به المتيقن من جميع الأعصار الثلاثة المحمودة.
وهم يعرفون هذا ويقرون به ولا يقدرون على إنكاره.
ثم خالف جميع متأخريهم هذا الإجماع وحرفوه وابتدعوا ضلالة لم يسبقهم إليها أحد قبلهم فصاروا فرقتين:
إحداهما: قلدت أبا حنيفة بلا طلب ولا تكلف به.
والأخرى: جعلت شغلها في دينها البحث عما ينصرون
به أقوال أبي حنيفة على تضادها واختلافها.
وأن له قولتين: إحداهما تحرم، والأخرى تحلل ماحرم في الأخرى، فينصرونها جميعاً مجاهرة لله تعالى بهذا الباطل بكل خبر مكذوب يدرون أنه غير صحيح، وبكل قياس فاسد، وتعليل بارد لم يعرفه قط صاحب ولا تابع.
وفيهم طائفة لا تدري الخروج عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد وزفر.
وكل هذه بدعة هتكوا بها أهل الإسلام قاطبة ثم تلاهم المالكيون والشافعيون، فهذا خلاف الإجماع حقاً، لأكاذيبهم المفضوحة، ودعاويهم المفتراة في دعواهم الإجماع حيث لا إجماع إلى خلافهم الإجماع حقاً وكذبهم
على جميع الصحابة رضي الله عنهم وعلى جميع أهل الإسلام أولهم عن آخرهم فأخذوا طرفي حبل الضلالة
وانتظموا التلبيس معاً ونعوذ بالله من الضلالة والهلاك.
قال العلامة الشيخ ابن عقيل الظاهري ـ حفظه الله تعالى ـ معلقاً على هذا النص لابن حزم في كتابه الماتع
"نوادر الإمام ابن حزم " (2/ 138ـ 139):
1ـ هذا النوع من الإجماع سماه أبو محمد إجماعاً تاماً، ووصفه في موضع آخر بالإجماع اللازم. (انظر:
مراتب الإجماع ص 8).
وهذا الإجماع يسميه المعاصرون السيرة العملية.
2ـ مستند تسمية هذه المعرفة إجماعاً أمران:
أولهما: وجود المقتضي، وهو معرفة حال كل من شهر بالعلم قبل عصور التقليد بأنه لم يأتم لإمام بعينه.
3ـ تخلف المانع ـ وهو مانع محصور قابل للعلم
به ـ، إذ لم ينقل التقليد قبل التمذهب لأبي حنيفة وبقية
الأئمة رحمة الله عليهم.
وقد قلت في أكثر من مناسبة بأن الإجماع بمعنى نقل الاتفاق متعذر، ولا يصح منه سوى معنيين تقفرهما أبومحمد في كتبه:
أولهما: ارتفاع الاحتمال المعتبر المعارض للاتفاق المقطوع به المنقول اغلبه.
وذلك كما مر في الصورة الآنفة الذكر.
وثانيهما: ما يجب أن يكون عليه الاتفاق، وهو ما يجب التصديق به كخبر التواتر وما كان شرطاً لصحة الإسلام وما كان معروفاً بضرورات العقل والحس.
3ـ ما ذكره أبو محمد عن مقلدي أبي حنيفة ظاهرة في جميع المذاهب الأخرى بما فيها مذهب الظاهرية، وليس في ذلك أدنى تحامل.
¥