وأنت إذا أمعنت النظر في مقالات أكابر المجتهدين المشتغلين بالأدلة وجدتها من مذهب الظاهر بعينه بل إذا رزقت الإنصاف وعرفت العلوم والإجتهاد كما ينبغي ونظرت في علوم الكتاب والسنة حق النظر كنت ظاهرياً أي عاملاً بظاهر الشرع منسوباً إليه لا إلى داود الظاهري فإن نسبتك ونسبته إلى الظاهر متفقة وهذه النسبة هي مساوية للنسبة إلى الإيمان والإسلام وإلى خاتم الرسل عليه أفضل الصلوات والتسليم. (البدر الطالع 2/ 290).
قال مبارك: ولا يخفى على من رزق الإنصاف إن أبرز سمات الأخذ بالظاهر والإتباع ترك التعصب والتبعية والتقليد الأعمى. يُشير إلى ذلك ما نقله الإمام محمد بن خليل العبدري في كتابه " المورد الأحلى في اختصار المحلى" عن الإمام ابن حزم بقوله: ولسنا نرضى عمن يغضب لنا، إنما نرضى عمن يغضب للحق، ولا نسر بمن ينصر أقوالنا، إنما نسر بمن ينصر الحق حيث هو.
ولا يجهل علينا جاهل فيظن أننا متبعون مذهب الإمام أبي سليمان داود بن علي، إنما أبو سليمان شيخ من شيوخي ومعلم من معلمينا، إن أصاب الحق فنحن معه اتباعاً للحق، وإن أخطأ اعتذرنا له، واتبعنا الحق حيث فهمناه، وبلله تعالى التوفيق.
قال محمد بن خليل: وكذلك أقول: لا يجهل علي جاهل فيظن أني متبع للإمام أبي محمد، أبو محمد شيخ من شيوخي ومعلم من معلمي، إن أصاب الحق فأنا معه اتباعاً للحق، وإلا فأنا مع الحق حيث فهمته، بحسب ما يوفقني الله تعالى له وينعم به علي.
قال أبو عبدالرحمن بن عقيل: وأنا أقول ذلك أيضاً.
وقال ابن عقيل الظاهري ـ أيضاً ـ موضحاً موقفه من الظاهرية في محاضرة له ألقاها في نادي الطائي بحائل: إنني مقتنعاً بأصولِ أهل الظاهر التي قال بها ابن حزم، أو داود، أو منذر بن سعيد البلوطي، أو غيره. مقتنعاً بها
غاية الاقتناع، ولكنني لا اتبع ابن حزم في تطبيقاته الفقهية، وأخالفه في أكثر من مسألة وليس ذلك ارتداداً مني عن ظاهريتي، ولكن ذلك زيادةُ تمسكٌ مني بظاهريتي؛ لأن أبا محمد أخطأ في تطبيق الظاهر.
أما عن موقف العلامة أبي عبدالرحمن ابن عقيل من ديكارت فقد كان شديد الاحتفاء بفلسفته، قال في كتابه الماتع " لن تلحد " (61ـ 63): سينكر عليّ بعض إخواني ولعي بفلسفة " ديكارت" وترديدي لها، لأن في حقائق ديننا غنى عنها ولأن الفلسفة لم تكن طالع خير في تاريخنا المجيد وإنني مجيب عن ذلك بأن اقتناعنا نحن المسلمين بيقينية الحقائق الدينية أمر لا لبس فيه، فأخبار الوحيين حقائق يقينية قطعية نهائية نتهم فيها أي فكر مهما عظم ونتهم فيها كل منهج يفرض التعارض بين المعقول والمنقول وبين المنقول وحقائق العلم القطعية.
ولكن هل معنى اقتناعنا بحقائق الدين ينافي حرصنا على الفلسفات التي تؤيدها أو تعارضها.إن واجبنا كبير في نشر العقيدة وتثبيتها في نفوس وعقول الكثير من شبابنا الذين قرأوا كثيراً عن فلسفة الماديين والتجريبين وعن اعتراضات نقاد الحقائق الدينية وكادوا يفتتنون بها،ولن يتهيأ واجب نشر العقيدة وتثبيتها ما لم نواجه تلك الفلسفات وجهاً لوجه بحقائق هذا الدين.
الاقتناع الحق بهذا الدين أن نواجه كل مذهب يجهل عقيدتنا بحقيقة الدين فان أشحنا بوجوهنا غاضبين عن تيار الفلسفة، وجعلناه يعبر إلى أذهان شبابنا وبني ملتنا دون أن نضع حقائق الدين سداً منيعاً يقف مد ذلك التيار فإنما نكون حقاً غير واثقين بحقائق ديننا، بل كان معنى ذلك أننا مقتنعون بأن الدين عاجز عن مواجهة الفلسفة البشرية المسكينة.
ولست مغرباً في هذا الادعاء فأقرب دليل لي هو واقعنا التاريخي، فكلما شوشت الفلسفة على حقائق العقيدة أتاح الله مجددين يجلون صدأها، ويرفعونها بيضاء نقية تسر الناظرين.
وهؤلاء هم المجددون حقاً من أمثال ابن حزم، وأبي حامد الغزالي من بعض الوجوه وشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم كثيرون.
¥