[متقدموا أهل الحديث أعلم أم متأخريهم؟!]
ـ[أسد السنة]ــــــــ[14 - 02 - 03, 05:25 م]ـ
الساحة العربية: الساحات الساحة الإسلامية متقدموا أهل الحديث أعلم أم متأخريهم؟
أبو عمر الكناني 04 - 2 - 2003 23:25
في الآونة الأخيرة برز من يفرّق بين منهج المتقدّمين وبين منهج المتأخرين في علوم الحديث:
وليس غرضي المداخلة في البحث من أساسه ولكن في فقرة ترد كثيراً بلا تعليق عليها من أحد الجانبين:
إذ يستنكر أصحاب هذا الاتّجاه على بعض من يخالفهم قوله: إنّ المتأخّر توفّر له من سبل البحث أكثر من المتقدّم.
ولعلّ البعض يدفعه الحماس للمتقدّمين ما يجعله يجنح إلى أقوال فيها تنقّص للمتأخّر، وهذا في ظنّي فيه هضم للمتأخّر من جهة، وفيه تعمية عن زاوية مهمّة في تاريخ العلوم كلّها وهو تطوّرها وتوسّعها كلّما مضى عليها الزّمن.
والّذي أريد الوصول إليه أنّ المقارنة بين المتقدّم والمتأخّر من حيث الأفراد لاشكّ أنّ نتيجتها مقطوع بها من حيث أنّ المتقدّم أكثر علماً وأدقّ فهماً إلى آخر تلك الأوصاف، ولا يوجد عاقل يعرف ما يخرج من رأسه يقارن متأخّراً علماً بمثل أحمد بن حنبل مثلاً أو الشّافعي أو أبي حاتم أو أبي زرعة.
لكن مع هذا يجب أن لا نغفل أنّنا في مجال البحث العلمي ننظر أيضاً إلى المجموع لا إلى الأفراد، بمعنى أنّ التّراث الّذي ورثته الأمّة في سنيها المتأخّرة لا نشكّ أنّ حصيلته تفوق ـ ربّما بكثير جداً ـ عن حصيلة الفرد الواحد من المتقدّمين.
ونحن نعلم أنّنا في في العصور المتأخّرة اجتمع عندنا من التراث العلمي ما لعلّه لم يجتمع لرجل من المتقدّمين بمفرده، وهذا في رأيي الشّخصي قد يجعل أمام الباحث الفرد في العصر المتأخّر من المادّة العلميّة في بحث ما أكثر ممّا في يد المتقدّم، لا لكونه أوسع منه رحلة وعلماً وجمعاً وفهماً، وإنّما هو بركة جهد أولئك المتقدّمين الّذين تعبوا وجمعوا وبلّغوا ما علموا للمتأخّر الّذي كلّما تأخّر زمنه كلّما تيسّر له مالم يتيسّر للمتقدّم بمفرده، وأرجو أن لا يجادل في هذا أحد لأنّه واقع بالفعل.
إنّنا في بحوثنا ننقل أحياناً من كتب لم يطّلع عليها بعض من عاصر مؤلّفيها، ونحن نعلم مثلاً أنّنا ننقل عن التّرمذي الّذي لم يعلم به ابن حزم في القرن الخامس، وفي الأجزاء الحديثيّة الّتي ألّفها أفراد على قلّتها بالنّسبة لعلم الأوائل وصلتنا بما فيها من مرويّات لعلّ بعض المتقدّمين لم يطّلع عليها، ومع هذا توفّر لنا الاطّلاع عليها والاستعانة بها في إصدار أحكام ربّما دعّمت رأي المتقدّم وربّما بيّنت لنا خطأ رأيه.
فعلينا إذن أن ننظر بشموليّة أكثر لتاريخ العلوم وتطوّرها في شتى المجالات، وليس في هذا ما يغضّ من شأن المتقدّم ومنزلته، بل هكذا تعامل المتقدّمون أنفسهم مع من تقدّمهم.
ففي أقوال الإمام أحمد وغيره نقد لمن تقدّمهم من الرّواة ومن الأئمّة، ولم يقل أحد منهم لعلّ ذلك الرّاوي الّذي أخطأ سمع من إمامه ومن شيخه وهو أعلم بما سمع وهو الإمام الجهبذ المطّلع: فخطّئوا مثل الزّهري على جلالته في بعض الرّوايات، وخطّؤوا مالك في بعض الرّوايات.
وإذا كان كذلك فلماذا نجعل من الأئمّة النقّاد على جلالتهم وعلوّ كعبهم نماذج لا يتطرّق الخطأ إلى أقوالهم؟ مع أنّه ثبت أنّ بعض أقوالهم كانت محلّ نظر واضح وصريح: خذ مثالاً لذلك مقولة أبي زرعة الشّهيرة في سنن ابن ماجة وحكمه بأنّه ليس فيها من الضّعيف إلاّ ثلاثين حديثاً.
وقد ردّ كثير من العلماء على هذه المقولة واضطرّ بعضهم لتأويلها تأويلاً بعيداً ليوافق الواقع وهو أنّ سنن ابن ماجة فيه قرابة الألف حديث ضعيف. [انظر أبوزرعة الرازي وجهوده في السّنّة لسعدي الهاشمي 3/ 1015]
هذا وأبو زرعة كما يتبيّن للمتخصصين من أجلّ النقاد المتقدمين علماً ودراية بالسّنّة والرّواية والرّجال. ومثال آخر: هو انتقاد الدّارقطني ـ وهو من المتأخّرين عند البعض ـ لروايات في الصّحيحين.
وبعض الكلّيّات الّتي أطلقها بعض المتقدّمين ثبت خلافها، كقول أحمد رحمه الله: (كل من روى له مالك فهو ثقة)، فهذه المقولة توحي لك بأنّ الإمام استقرأ شيوخ مالك وعرف حالهم، لكن مع هذا عرف الأئمّة أنّ من شيوخ مالك من هو مشهور بالضّعف مثل عبدالكريم أبي أميّة وهو متروك.
وقول ابن المديني: (كلّ مدني لم يحدّث عنه مالك ففي حديثه شيء) وابن المديني يمكن أن يُقال فيه علمه ونقده وسبره للرجال والروايات من أعلى الأوصاف وأجلّها، ومع هذا قال ابن رجب: فيه نظر. [انظر لذلك ولما قبله شرح علل الترمذي 2/ 876،879]
بل من أكبر العبر في هذا الموضوع نقد المتقدّمين بعضهم بعضاً، فإنّنا نستفيد من ذلك فائدة عظيمة: هي أنّ المتقدّم مع جلالته قد يخطىء وقد يطّلع غيره على مالم يطّلع عليه هو، ثمّ هذا الغير ربّما يكون معاصراً له وربّما يكون متأخّراً عنه.
وهذه الأمثلة حاصلة بلا عناء، ولو فتّش الباحث لوجد شيئاً كثيراً، فلا يُستنكر أن يقول متقدّم مثلاً: من روى عن الحسن عن سمرة سماعاً فهو خطأ، ثمّ نجد رواية متصلة بالثقات يصرّح فيها الحسن بالسّماع من سمرة.
ولا يجوز لنا أن نخطّىء الدليل الحسّي وهو هذا النّقل المسند، لمقدّمة كلّيّة يطلقها إمام متقدّم، لأنّ التّعميم أصعب من التّخصيص والخطأ عليه وارد مهما كان صاحب الكلّيّة علماً وجلالة وإتقاناً.
هذه خاطرة في الموضوع والله أعلم بالصواب ..
¥