تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

عتبة الجسم والخيالبملحقاتهما المختلفة إلى عالم العقل بمعارفه وعلومه النظرية. وهذا ما يُفقِد طريقةالصوفية الطابع العلمي الذي يستند إلى مقدمات وأقيسة قائمة على مبدأ الضرورة.

وبعبارة ابن رشد نفسه، إن الصوفية «إنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره منالموجودات شئ ُيلقَى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرعلى المطلوب»، أي أن طريقتهم هي طريقة عملية قائمة على التطهير وانتظار المددوالعطاء الإلهي الذي لا يخضع لأي حتمية أو معقولية. كما يعترض ابن رشد على الصوفيةمن جهة الرؤية، ذلك أنها لا تقرّ بالسير الذاتي للطبيعة، وبقدرة الإنسان على الكشفعن قوانينها، وإنما ترى في الطبيعة تجلي من تجليات الإله أو آية من آياته، لا يجوزالمساس بها أو العمل على فك أسرارها ورموزها بالوسائل العقلية.

لكن بالرغم من هذهالانتقادات لم يعارض ابن رشد وجود التصوف نفسه، وإنما عارض إمكانه وعواقبه الوخيمةعلى استمرار العلم والدولة: «ونحن نقول إن هذه الطريقة، وإن سلّمنا وجودها فإنهاليست عامة للناس بما هم ناس، ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقةالنظر، ولكان وجودها بالناس عبثا، والقرآن كله دُعاء إلى النظر والاعتبار وتنبيهعلى طرق النظر

لم يكن في نية ابن رشد إذن إقصاء القول الصوفي من المجالالمعرفي الذي يوجد بين الشريعة والفلسفة كما فعل مع علم الكلام، وإنما اعتبره غيرصالح للإنسان بما هو إنسان، أي بما هو حيوان عاقل، وبما هو مدني بالطبع. أماالإنسان بما هو خارج عن الطبع، فقد يحركه شوق للاطلاع على أسرار وخوارق هذه التجربةالعجيبة. ويحتفظ لنا التاريخ بشهادتين بليغتين على تطلع ابن رشد نفسه للتأكد منخبايا القول الصوفي، وهما شهادة عبد الرحمن بن إبراهيم الخزرجى وشهادة محي الدينابن عربي. فقد روى الخزرجى عن ابن رشد «قال بَعَثني أبو الوليد بن رشد من قرطبة، وقال لي إذا رأيت أبا العباس السبتي بمراكش فانظر مذهبه وأعلمني به. قال فجلست معالسبتي كثيرا إلى أن حصلت مذهبه، فأعلمته بذلك، فقال أبو الوليد هذا رجل مذهبه أنالوجود ينفعل بالجود، وهو مذهب فلان من قدماء الفلاسفة

أما الشهادةالثانية فهي الشهادة المشهورة التي رواها ابن عربي في كتابة الفتوحات المكية، والتيزعم فيها أن ابن رشد رغب في لقائه به بطريقة ملتوية لمعرفة مقدار تطابق غايتيالتصوف والفلسفة عند الوصول. ونفهم من تعاليق ابن رشد على هاتين الحادثتين أنه كانحريصا على ربط تجربة التصوف بالمرجعية الفلسفية، وكأنه كان يعتقد أن التصوف هو أحدأجناس القول الفلسفي الشاردة.

هكذا يتأكد لنا أن غاية ابن رشد لم تكن البحث عنمكان للفلسفة بجانب علم الكلام أو التصوف أو السعي لعقد مصالحة بينها، كما لم يكنيريد في المقابل قراءة الفلسفة بغيرها، أو استعمال الفلسفة آلة منهجية لتأسيسوتدعيم جنس قولي مغاير لها (علم الكلام)

وموازاةلذلك، كان ابن رشد حريصا على إبقاء الشريعة بعيدة عن العقلين الكلامي والصوفي، لأنهما باستعمالهما للتأويل، ذي الطابع الذاتي، يشوهان دلالات النص الشرعي. وبالفعل، فإن ما يأخذه ابن رشد على التأويل الذاتي أنه يعطي فرصة للذات لكي تظهرعلى ساحة الأحكام المعرفية والدلالية، مما يؤدي إلى تحويل الدلالة إلى رأي وعقيدة، مبعداً إياها عن مرتبة البداهة واليقين. هكذا يصور ابن رشد التأويل وكأنه أداةتشويه للمعرفة، ومصدر تشويه للدلالة، وللذات المتلقية لها. ولما كانت الذات المؤولةتنتج خطابا ذاتيا، فإنها ترهن مصيرها بالجمهور، في مقابل الذات البرهانية التي تنتجخطابا موضوعيا ومحايداً، لا أثر فيه للولاءات والعقائد والانفعالات، مما يحررها منتبعيتها للجمهور والانصياع لتوجيهاته المغرضة.

لم يكن غرض ابن رشد، إذن، أن يقوم بدور المتكلم، أي بمهمة الدفاع عن صلاح مذهبه وفساد المذاهب الأخرى، وإنما أراد أن يبرهن أنالفلسفة هي نظر في ’الوجود بما هو موجود‘، أي بأدوات الوجود نفسه.

لالأن هذين القولين لا يرقيان إلى مرتبة العلم وحسب، ولكن أيضا لأنهما يهددان وجودها، لأنهما يطمعان في أن يصبحا بديلا معرفيا لهاوما كان يخشاه هو ما حصلفعلاً في الزمن اللاحق لابن رشد. إذن يتعلق الأمر باستراتيجيتين متقابلتين تماماً، استراتيجية تسعى إلى إبعاد علم الكلام عن فضاء المعرفة العلمية والدينية معا، وهياستراتيجية ابن رشد، واستراتيجية تريد إضفاء الطابع العلمي والفلسفي على علم الكلامفي مقابل جعل الفلسفة مجرد خادمة لعلم الكلام، وهي استراتيجية متكلمي الإسلاموالمسيحية واليهودية.

هكذا كان على ابن رشد أن يتصدى لعلم الكلام منجهتي الفلسفة والشريعة، لأنه يشوش عليهما معا، أي على المعرفة والعقيدة؛ علىالمعرفة لأنه-علم الكلام- كان يدعو للاستغناء عن العقل، وعن المبادئ التي تؤسسه

ويشوش الكلام على الشريعة لأنه بالتعريف علم للدفاع عن الفرقةالناجية، واتهام الفرق المخالفة بالمروق والخروج عن الطريق المستقيم، مما يَؤُولإلى بث التفرقة بين الجمهور وتقويض إيمانهم الفطري، دون أن يعوضهم بإيمان أكثروثاقة من إيمان أهل الظاهر. وبهذا النحو يكون ابن رشد أكثر وعيا بعواقب الخلط بينجنس القول الفلسفي وجنسي القول الكلامي والصوفي من كثير من معاصرينا، الذين نجدهميتهافتون على ترديد دعوى الخلط بين الفلسفة وغيرها من دون دراية، وإنما روايةً عنمستشرقين روّجوا لبدعة تزعم بأن العقل العربي الإسلامي غير مؤهل أصلاً للإبداعالعلمي والفلسفي

لم تنطلعلى ابن رشد لعبة الأشباه والنظائر في الموضوعات والمصطلحات كما يحدث لذوينا اليوم، إذ لا يكفي استعمال نفس الآلات والوسائل، والتطرق لنفس الموضوعات والمسائل، لكينلغي الفوارق الجوهرية بين القول الفلسفي والقولين الكلام والصوفي، لأن العبرة فيطبيعة الرؤية والرهانات، لا في الموضوعات والأدوات.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير