تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

لن نجيب هنا عن هذا السؤال، فسيأتي الجواب عنه بعد حين. يكفينا الآن أن نسجل أن هذا السؤال الإجرائي يضعنا أمام حقيقة تفرض نفسها، وهي أن رد الغزالي على ابن سينا لم يكن بريئا! وإلا فلماذا تجند لابن سينا وسكت عن الآخرين؟ لقد كان ردا إيديولوجيا، كما نقول اليوم. والرد الإيديولوجي خطاب لا ينطق باسم الشخص المنتج له وحده، بل ينطق باسم الجماعة التي ينتمي إليها ذلك الشخص ويتحدث باسمها ولفائدتها، ضد جماعة أو جماعات أخرى. وهذا الطابع الإيديولوجي في الرد على ابن سينا يتكرر -ويا للصدف! - بصورة لافتة للنظر، كما يتكرر الرد المضاد المنافح عن ابن سينا، وذلك عبر أجيال ثلاثة متتابعة تلت الغزالي مباشرة، كما سنرى بعد قليل.

ما يهمنا الآن هو الوجه الآخر للرد الإيديولوجي. نقصد بذلك تبنِّيه بل امتصاصه لفكر الخصم، جزئيا أو كليا. كتب الغزالي عرضا مبسطا وواضحا لفلسفة ابن سينا في كتابه "مقاصد الفلاسفة" تمهيدا، كما قال، لنقدها وبيان تناقضها. ومن هذا الكتاب، الذي كتب بروح حيادية وموضوعية لافتة للنظر، يتجلى مدى امتصاص الغزالي وهضمه للفلسفة السينوية، وذلك إلى درجة يصعب معها تصور الغزالي يفكر خارج السنوية.

ذلك ما لمسه ابن العربي المتكلم الأشعري الأندلسي، الذي التقى بالغزالي وسمع منه، والذي قال فيه قولته المشهورة: "شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع". وقد صاغ ابن تيمية الفكرة نفسها بعبارة أخرى فقال: "شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما استطاع".

فعلا، بقي الغزالي مشدودا إلى الفلسفة وعلومها ينشرها بصورة أو بأخرى. لقد دعا بإلحاح إلى تبني المنطق الأرسطي بدلا من منهج المتكلمين، فألف فيه عدة كتب تحمل أسماء مختلفة وصرح، موجها الكلام إلى الأصوليين والفقهاء، بأن من لا يتقن المنطق (الأرسطي) لا يوثق بعلمه. أما ما دعاه ابن سينا بـ "الحكمة المشرقية"، والتي وعد بتأليف كتاب فيها بنفس العنوان ولم يتممه، فقد تبنى الغزالي منطلقاتها وعبر عن آفاقها، بدرجات متفاوتة، في كتبه المعروفة بنزعتها الصوفية الهرمسية: ابتداء من كتابه "إحياء علوم الدين" الذي أراد أن يجعل منه "فقه الروح" في مقابل "فقه الرسوم" و"الشكليات" فقه الفقهاء، إلى كتابه "مشكاة الأنوار" الذي تبنى فيه بوضوح الرؤية الفلسفية الهرمسية للكون وهي الرؤية التي تجد صيغتها "العالمة" في فلسفة أفلاطون وأرسطو. وهكذا فالغزالي الذي اشتهر بـ "الرد" على الفلاسفة، وعلى ابن سينا بالذات، كان سينويا في كل ما كان يعرفه في المنطق والطبيعيات والإلهيات، وفي كل ما ألف في هذه العلوم. لقد بقيت الفلسفة، وفلسفة ابن سينا بالذات، حية في قلب الغزالي نفسه. ومنه انتقلت إلى شيوخ المذهب الأشعري من بعده.

7 - الشهرستاني يقدم البديل "الموضوعي" في الرد على ابن سينا

2) كان ذلك عن الغزالي نفسه. أما الشهرستاني، أكثر المؤلفين الأشاعرة التزاما للحياد والموضوعية في عرض آراء الخصوم، والذي خلف الغزالي في التدريس في نظامية بغداد، قبل وفاة هذا الأخير بسنة واحدة لا أكثر، فقد عرض الفلسفة الكلامية السينوية أربع مرات، على الأقل:

- المرة الأولى في كتابه "الملل والنحل" في الباب الذي خصصه لآراء الفلاسفة حيث عرض "رأي أرسطوطاليس" الذي استخرجه -كما يقول- "من مواضع مختلفة وأكثرها من شرح ثامسطيوس وكلام الشيخ أبي علي ابن سينا الذي يتعصب له وينصر مذهبه ولا يقول من القدماء إلا به"!

- والمرة الثانية في الكتاب نفسه في الباب الذي جعل عنوانه: "المتأخرون من فلاسفة الإسلام"، حيث اكتفى بذكر أسماء الذين سبقوا ابن سينا لينتقل مباشرة إلى من وصفه بأنه: "علامة القوم أبو علي بن عبد الله بن سينا"، الذي "كانت طريقته أدق عند الجماعة ونظره في الحقائق أغوص"، ولذلك اختار نقل طريقته من كتبه، معرضا "عن نقل طرق الباقين وكل الصيد في جوف الفرا"، كما قال.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير