تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

- أما المرة الثالثة فعندما تصدى لـ"مصارعة الفلاسفة" في كتاب له يحمل نفس الاسم والذي اقتصر فيه على منازلة ابن سينا لكونه كما قال: "المبرز في علوم الحكمة وعلامة الدهر في الفلسفة". وقد سلك الشهرستاني في هذه المصارعة مسلكا خاصا: يورد أطروحات لابن سينا بنصها تقريبا ثم يشرع في بيان ما فيها من تناقض، لينتقل بعد ذلك إلى مناقشة البراهين التي تؤسسها، لدحضها وإبطالها. كل ذلك بأسلوب هادئ لا عنف فيه ولا تشنج. واللافت للنظر أن الشهرستاني لا ينازل ابن سينا من موقعه كمتكلم أشعري، ولا يتعرض لمدى موافقة أو معارضة آرائه للعقيدة الإسلامية، بل يناقشه مناقشة فيلسوف لفيلسوف، متجاهلا تمام التجاهل الغزالي وكتابه "تهافت الفلاسفة". بل يمكن القول إن كتاب الشهرستاني هذا، هو نوع من البديل "الموضوعي" في الرد على ابن سينا، أراد به مؤلفه نقض كتاب الغزالي موضوعا وشكلا. وهذا ما يشير إليه، ولو من طرف خفي، عندما كتب يقول في مقدمة الكتاب: "أردت أن أصارعه مصارعة الأبطال، وأنازله منازلة الرجال". "وشرطت على نفسي أن لا أفاوضه (=ابن سينا) بغير صنعته، ولا أعانده على لفظ توافقنا على معناه وحقيقته، فلا أكون متكلما جدليا أو معاندا سوفسطائيا". وهذه إشارة واضحة إلى رفض الطريقة التي سلكها الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة"، والتي لجأ فيها، بقصد وإصرار، إلى توظيف جميع أساليب الجدل والسفسطة.

- أما في المرة الرابعة فقد عمد إلى الجمع بين آراء ابن سينا وآراء المتكلمين في كتابه " نهاية الإقدام في علم الكلام"، حيث يورد، بأسلوب يتسم بالهدوء والموضوعية، رأي كل فريق في المسألة الكلامية الواحدة مع ترجيح رأي الأشاعرة. وهكذا يكون الشهرستاني، الذي كان يلقب بـ "الإمام الأفضل"، قد فرش بالورود الطريق التي سيسلكها فخر الدين الرازي.

8 - مع الفخر الرازي تحول علم الكلام إلى "فلسفة متنكرة"!

3) بالفعل كان الإمام ابن الخطيب، فخر الدين الرازي شيخ الأشعرية في عصره وفيلسوفهم دون منازع، أكثرَ سينوية من الشهرستاني –وكان قد ولد قبل وفاة هذا الأخير بأربع سنوات لا غير- ليس فقط لكونه لم يكتب ردا على الفلاسفة، إذ اكتفى بكتابة "شرح" نقدي لكتاب ابن سينا "الإشارات والتنبيهات"، وهو الكتاب الذي يعتبر أهم كتب ابن سينا وأكثرها تعبيرا عن اتجاه فكره، بل أيضا لكونه بدأ من حيث انتهى صاحب "نهاية الإقدام"، أعني من عرض آراء الفلاسفة والمتكلمين والمقارنة بينها. والحق أن الرازي -الذي كان معاصرا لابن رشد- يسجل نقطة تحول في تاريخ العلاقة بين علم الكلام والفلسفة، النقطة التي اندمج فيها الاثنان أحدهما في الآخر حتى "التبس على من جاء بعده، وسار على نهجه، شأن الموضوع في العلمين" -كما يقول ابن خلدون- وذلك في كتابه الأشهر: "محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين"، وهو الكتاب الذي أعاد فيه صياغة المذهب الأشعري موظفا المفاهيم الفلسفية السينوية، محاولا امتصاصها وإعطاءها توجيها آخر.

على أن الاتجاه الفلسفي لدى الرازي إنما يتجلى بوضوح أكبر في كتابه "المباحث المشرقية في الطبيعيات والإلهيات"، الذي قلنا عنه في مكان آخر، إنه يستعيد مشروع ابن سينا لتأسيس فلسفة مشرقية، ولكن داخل المذهب الأشعري لا خارجه!

يتعلق الأمر إذن، مع الإمام ابن الخطيب، بالانتقال بالفلسفة الكلامية السينوية من فلسفة تطمح إلى احتواء علم الكلام، إلى فلسفة تفتح صدرها لعلم الكلام ليطرح فيها إشكاليته، ليدخلها من أجل أن يحتويها فتحتويه في نهاية المطاف. ذلك ما نلمسه في مؤلفات الذين خلفوا الرازي أمثال البيضاوي (توفي 685هـ) في كتابه "طوالع الأنوار"، والإيجي (680 - 756 هـ) في كتابه "المواقف في علم الكلام"، وشرح الجرجاني (740 - 816هـ) له، إضافة إلى حواشي السيلوكي والشلبي عليه مما ضخم حجمه إلى أزيد من ألفي صفحة، فصار موسوعة في علم الكلام والفلسفة، وبقي المرجع الأساس في الدراسات الكلامية الفلسفية في الجامعات الإسلامية كالأزهر والقرويين والزيتونة إلى مستهل هذا القرن.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير