" أما أنا أصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا اصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " أنتم قلتم كذا وكذا أما والله وإني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفكر ,اصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني "
فالإكثار من الصلاة والصوم جاءت النصوص العامة تحث عليه وكذا التفرغ من ملاذ الدنيا والإقبال على الطاعة للتكثر من العبادات ولكن كل هذا لما كان مخالفا لما كان عليه عمله صلى الله عليه وسلم كان العمل بتلك النصوص العامة بدعة ضلالة
وترك الزواج مباح في قول جماهير أهل العلم لاستحبابه في الأصل عندهم، والسعي للتفرغ للعبادة والطاعة أمر مطلوب شرعا دلت عليه كثير من النصوص العامة، ولكن لما كان في مجموع هذا مخالفة للسنة، وكان ترك الأول إنما كان سببا لتحقيق الثاني وهذا من المبالغة كان العمل بتلك النصوص العامة بدعة فأين ما يشترطه المخالف من مخالفة النصوص؟
وتأمل كيف كان هذا النوع من العبادة المأمور بها يحمل في حقيقته رغبة عن السنة ومخالفة للسنة وإعراضا عن السنة بينما ظاهره إقبال ومنه تعلم أن العبادة إن لم تكن على السنة فهي ضلال
ويدل على أن فعل العبادة (المشروعة من حيث أصلها) يكون بدعة إذا أضيف إليه قيد محدث من تخصيص لمكان أو نحوه وأن هذا كان ممنوعا وأن المنع أصل ثابت، الذي يدل على هذا ما جاء عَنْ أَنَسٍ قَالَ
قَالَ عُمَرُ:
وَافَقْتُ رَبِّى فِى ثَلاَثٍ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) ...
رواه البخاري
و عن جعفر بن محمد، عن أبيه، سمع جابرا، يحدث عن حجة النبي، صلى الله عليه وسلم قال: لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر: هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: «نعم» قال: أفلا تتخذه مصلى؟، فأنزل الله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى
فعمر رضي الله عنه لم يجرؤ على اتخاذ المكان خلف المقام مصلى يخصه بالصلاة حتى جاء واستأذن النبي ص في ذلك ولم يجبه النبي ص حتى نزل الوحي.
فكيف يقال إن هذا التخصيص الذي خطر في بال عمر هو مستحب من الأصل ولا يحتاج إلى دليل خاص لعموم الأدلة التي تحث على الإكثار من السجود؟
إذًا لماذا جاء يستأذن النبي ولماذا انتظر النبي الوحي؟
ما ذاك إلا لأنه ممنوع في الأصل والحديث ظاهر في ذلك
وقد تنوعت النصوص للدلالة على أن مجرد كون العمل عبادة لا يعني أنه يكون عبادة دائما، بل متى ما أضيف إليه قيد مخالف للسنة فإنه يفقد شرعيته، لأن الحكم إنما على مجموع العمل بما اتصل به من قيد،
فقراءة القرآن من أعظم القربات إلى الله، ولكن في حال الركوع تكون القراءة منهيا عنها بسبب هذا القيد، ولا يقال القرآن في نفسه منهي عنه وإنما النهي بما دخله من قيد الركوع أو السجود كما جاء النص بذلك، ولا يقال أيضا كيف تكون قراءة القرآن حراما، فهذا اعتراض خاطئ لأن الذي نقل لنا القرآن هو الذي قال بحرمته أو كراهته في هذه الحال
وأيضا الصلاة أعظم أعمال الإسلام لكن إن أديت قبل الغروب أو حال الشروق كانت منهيا عنها لقيد الوقت ليس إلا وهذا منصوص عليه
أيضا إذا خصت ليلة الجمعة بالصلاة أصبحت منهيا عنها لهذا القيد لا بالنظر إلا أصلها
أيضا غسل أعضاء الوضوء بالماء رفعا للحدث هو من أطهر الطاعات لكن إن تجاوز العدد المسنون أصبح منهيا عنه لا باعتبار أصله وإنما لهذا القيد وهو الزيادة على العدد المشروع وفي هذا جاء النهي
أيضا الصوم من أفضل القربات وجنة للعباد، لكن فعله يوم العيد أو يوم الشك على وجه الاحتياط هو منهي عنه، لا باعتبار أصله ولكن لقيد الزمان وفيه جاءت النصوص
وهكذا كل العبادات التي نهى الشارع عنها باعتبار ما يطرأ عليها من قيود لا باعتبار أصلها.
فلا يقال كيف تكون الصلاة التي أمر الله بها حراما أو كيف يكون الصيام أو قراءة القرآن ونحوها من الطاعات كيف تكون هذه العبادات محرمة؟
فهذا كلام من لم يَعِ هذا الباب، وكلام من يردّ الدليل الظاهر بغير دليل.
ومن ذلك ما يطرأ من قيود نهى الشارع عنها بالعموم بحيث كلما اتصلت بعبادة أخرجتها عن أصلها من كونها مشروعة إلى كونها إما محرمة أو مكروهة.
¥