4. وهل تظن الأمر بهذه السهولة حتى تعترض عليه؟! فهل كل من جاء بالكفر، والمعاصي الكبيرة والصغيرة هل تظن مثل هؤلاء يوفق للإسلام قبل وفاته، حتى تظن أنه سوف يقول: أنا أزني، وأقتل .. ، ثم أتوب قبل أن أموت؟ وهل يعلم أحد متى تأتيه منيته؟ وهل يجزم أحد بتوبته قبل لقاء ربه؟ هذا أبو طالب مثال، فقد كان مدافعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومقتنعاً بصدقه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو بنفسه الداعي له للدخول في الإسلام بكلمة واحدة، فهل قالها؟ هل وُفِّق لقولها؟ وهل انتفع والد إبراهيم بدعوة ابنه عليه السلام؟ وهل انتفعت امرأة نوح وولدها بدعوة نبي الله نوح عليه السلام؟ ليس الأمر كما ظننته أخي السائل بهذه السهولة، أن يكفر الكافر ثم يسلم وقتما شاء، أو يعصي العاصي ثم يتوب وقتما شاء، إن المسألة متعلقة بتوفيق الله، وهدايته، وبما تكنه صدورهم من حب الخير لأنفسهم، والبحث عن الحق، فاجعل قلبك معلقا بربك أن يوفقك، ويحسن ختامك، ويصلح لك شأنك.
5. وكما أن الله تعالى يقبل توبة العاصي، وإسلام الكافر، قبل موتهما – ما لم يغرغرا -: فإنه يُحبط عمل المسلم إذا ختم حياته بردة، ولو قضى عمره كله في الطاعة، فعاد الأمر إلى صدق الباطن وكذبه عند الطرفين، ولا علاقة لحياة الأول المليئة بالكفر والمعاصي، ولا حياة الثاني المليئة بالطاعة، بل العبرة بالخواتيم، ولا تغتر بما يظهر لك من نفسك، ومن الناس، واحرص على صلاح الباطن، فالأمر بما يعلمه الله بما في بواطن الناس لا بما ظهر لنا منها.
عَنْ سَهْل بنِ سَعْد رَضِيَ الله عَنْه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ).
رواه البخاري (2742) ومسلم (112).
وفي رواية للبخاري (6233) بزيادة في آخره: (وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ).
قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله -:
وقوله (فيما يبدو للناس) إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك، وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد، لا يطلع عليها الناس، إما من جهة عمل سييء، ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة.
" جامع العلوم والحِكََم " (1/ 57).
فتأمل أخي السائل حكمة الرب الجليل من هذا التشريع، فالطائع لا ينبغي له أن يغتر بعمله، فإنه لا يدري بم يُختم له، والعاصي لا يقنط من رحمة ربه؛ فإنه لعله أن يوفق للتوبة.
قال النووي – رحمه الله – في فوائد الحديث الأخير -:
ففيه التحذير من الاغترار بالأعمال، وأنه ينبغي للعبد أن لا يتكل عليها، ولا يركن إليها؛ مخافة من انقلاب الحال للقدر السابق، وكذا ينبغى للعاصي أن لا يَقنَط، ولغيره أن لا يقنِّطه من رحمة الله تعالى.
" شرح مسلم " (2/ 126، 127).
6. واعلم أخيراً: أن ما ذكرناه من قبول الله تعالى لإسلام الكافر، وتوبة العاصي: إنما هو في حال أن يكون ذلك منهم قبل حضور الموت، وقبل الغرغرة.
قال تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) النساء/ 18.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ.
رواه الترمذي (3537) وابن ماجه (4253)، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
ومن رحمة الله تعالى بعباده أنه يقبل التوبة حتى ممن جُهزت الحجارة لرجمه، وجهز السيف للقصاص منه، وأصيب بمرضٍ أيس من شفائه - كما بيناه في جواب السؤال رقم: (1807 ( http://www.islamqa.com/ar/ref/1807)) - وكل ذلك لا يصدق عليه أنه في حال الغرغرة، ولا حضره الموت، وهذا من لطف الله تعالى، ورحمته، وعظيم فضله، وبالغ كرمه، وقد سبقت رحمته تعالى غضبه، وادخر تعالى للخلق تسعاً وتسعين رحمة في الآخرة، فهذا الرب تعالى الذي آمنَّا به، وعلمنا أسماءه وصفاته، ونرجوه أن يغفر لنا زلاتنا، ويستر علينا ذنوبنا، ويتجاوز عنها، ونرجوه عظيم فضله، وواسع جنانه يوم نلقاه.
ولتعلم يا عبد الله أن أمر الله في عباده دائر بين العدل والفضل؛ فالله حكم قسط، لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) النساء/40؛ فتأمل كيف أن الله جل جلاله وعد، وهو جل جلاله لا يخلف الميعاد، ألا يظلم مثقال ذرة، وهذا عدله سبحانه، وأما فضله: فيضاعف الحسنات: الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. فتعرض لنفحات ربك، وتعرض لرحمته وفضله، ودع عنك الوساوس ومغاليط الكلام.
والله أعلم
الإسلام سؤال وجواب
http://islamqa.com/ar/ref/129710
¥