وقد أحسن الدكتور عبد العزيز قاسم حين فتش في أصوله ونشأته الأولى، مشيراً إلى أن العوامل الوراثية والتربية الأولى سبب مباشر في ملامح الشخصية طيلة حياتها، فهذا القَلَقُ بين الأقران والتمرد الدائم على السلطان والتمسك الدائم بكل جديد، ثمرة طبيعية لشخصية الترابي التي ورثها من أجداده ونشأته؛ فجده الأكبر تمرد على سلطان (سنار)، وذهب للحج فتمرد على أهل الحرم حتى سجنوه، وأبوه كان كثير الاحتجاج والتمرد على (المفتش البريطاني) في القضاء فأكثروا من نقله بين الولايات السودانية، وعائلته جميعها ما كانت تستقر على مذهب حتى تتمرد عليه، تتبع دائماً الجديد، وكأن لا هم لها سوى التزين بالجديد وإن كان غريباً، فقد جاءت طرق صوفية للسودان على أيديهم ـ على حد قوله هو ـ، وانقلبوا هم على ما جلبوه مراراً. والترابي ابنهم لذا صار على دربهم. فقد بدأ التمرد منذ درج، تمرد على الصوفية وقرأ لغيرهم، وتمرد على المذهب الفقهي السائد وقرأ في غيره، وتمرد على جماعة الإخوان المسلمين المصرية وادعى الانفراد والانعزالية [2]، وتربى في مدارس الإنجليز ورحل إلى بلادهم للدراسة التكميلية (ماجستير) فأثار لغطاً في المحاضرات يتمرد بقوة على أساتذة الجامعة، ثم تمرد على بريطانيا ورحل إلى فرنسا عدوتها التقليدية في أوروبا يوما يأخذ منها الدكتوراه في القانون، ثم تمرد على الفرنسيين حين عاد وحاول أن يترجم القوانين بالعربية على غير ما هو معهود عليه عندهم.
وتمرد على الثورين من الوطنيين، وعلى الفقهاء والمحدثين.
إن الترابي دائماً يتعاطى الغريب والجديد ودائماً متمرد على من حوله. حالة من التنقل السريع والتقافز السريع.
أعود وأسأل بعد هذا العرض: ما الترابي. ما هو مفتاح هذه الشخصية؟!
إنها حالة من الولع بالجديد والغريب مع قلق مستمر وتقافز مستمر. هذا هو مفتاح شخصيته الذي يعطينا تفسيراً مريحاً لما صدر منه في المكاشفات التي قام بها الدكتور عبد العزيز قاسم، وغيرها من مواقفه في السياسة.!!
وَلِعَ بالحركة الإسلامية في مصر فعمل على الدعوة لها أو لمثلها في السودان، ثم أثار القلاقل بين قرنائه ومن هو فرع عليهم ثم ما لبس أن تركهم وانشق عليهم وأسس شيئاً جديداً (حزب)، وكذا ولع بالغرب وما فيه فرحل طالباً لما عندهم من علم وكان بينهم قلقاً يثير الشغب على أساتذته في الجامعة وعلى الغرب كمنظومة فكرية وحراك سياسي، يشارك من يشجبون على الغرب ويشارك من يؤسسون الحركات لنصرة من يقاومون الغرب من أهل الشرق. وانضم لأهل الفقه فتحدث بالغريب وراح يثير الغبار .. بل يقذف بالأحجار أهل الفقه .. كل شيء عند الترابي يبدأ بوَلع ثم قلق مستمر ينتهي بانقلاب.
ومفتاح شخصيته هذا يمكن من خلاله معرفة أين سيضع الترابي قدمه وماذا سيفعل؟!
حالة غريبة من البحث عن الذات. والإصرار على التواجد في حياة الناس.فالترابي إن نظرت في السياسة وجدته، أو في الفقه وجدته، أو في التدين و (التعبد) وجدته بين (الخلوات) يفعل فعلهم أو يمتدح صنيعهم. أو في وسائل الإعلام وجدته يجالس من تحب ومن لا تحب.
إنه يحرص على أن يتواجد في ذاكرتك أنت. وإن كنت تعارضني فأجبني: كيف الجمع بين الصوفية و (الإخوانية) والانفتاحية (العقلانية)؟!
وكيف لم يصفو منه الود لرفاقه يوماً؟!، وكيف لم يثبت الرجل على مذهب يوماً؟!
ولا تتلوا علي أن القناعات تتغير. فليست هذه حالة من تغير القناعات. فهذا حاله مذ كان صبياً ولم تفارقه في شبابه ولا في شيخوخته. إن تغير القناعات شيء آخر، يُعرف بالاطراد والمرحلية لا بالتنقل والتذبذب والانقلاب، ولا يظهر فجأة بل تسبقه أعراض. ومقصودي القول بأن لا داعي حين عرض آراء الترابي أو مناقشتها أن نتعاطى مع الرجل كفقيه أو كعالم ومفكر، وإنما كمولعٍ بالجديد والغريب، مثيرٍ للقلاقل، محبٍ للتنقل والترحال.
أمارةُ فساد الرأي وانطباق ذلك على الترابي
يرفض الترابي أن يقال عنه فقيه أو مفتي، بل صاحب رأي. يقول: أقدم رأياً فإن وجد قبولاً راج بين الناس وعملوا به. فهو ـ حسب وصفه هو ـ صاحب رأي، وفساد الرأي من صلاحه يعرف
بالنظر في القول.
وبالنظر في القائل.
وبالنظر في سياق الحال الذي يعرض في الرأي.
¥