فمثلا يقول ابن النجار (ت:972هـ): (أما بعد: فهذا مختصر محتو على مسائل "تحرير المنقول، وتهذيب علم الأصول" في أصول الفقه، جمع الشيخ العلامة علاء الدين المرداوي الحنبلي تغمده الله تعالى برحمته، وأسكنه فسيح جنته، منتقى مما قدمه أو كان عليه الأكثر من أصحابنا، دون الأقوال، خال من قول ثان إلا لفائدة تزيد على معرفة الخلاف، ومن عزو مقال إلى من إياه قال .. – إلى أن قال - وأرجو أن يكون مغنيا لحفّاظه عن غيره على وجازة ألفاظه!!!). والأمثلة على هذا النحو كثيرة جدا في مقدمات المتون!!
في اعتقادي مجرد الاحتمال أن هذه الكلمات المختزلة (في هذا المتن أو ذاك) تُغني عما سواها، أمر يعسر على النفس توجيه اللوم بسببه لأي عالم، هل قصد ذلك أم لا؟ وذلك مراعاة لحسن الظن به، ورِفعةً لمقامه عن هذا الرأي المرجوح، مع هذا لزم التنبيه على ذلك لوجود من يتشدق به من أنصاف طلبة العلم والمثقفين!!
كيف يُكتفى بهذه المتون عن غيرها - بخاصة الفقهية والأصولية – واعتمادها في حكاية الأقوال والمذاهب أمر مشكوك فيه عند بعض العلماء؟!!
يقول أحد الباحثين: (الكتب التي سلك مؤلفوها مسلك الاختصار الشديد، وبالغوا في إيجازها حتى إنها تكاد تلحق بالألغاز في بعض المواضع، تعتبر من الكتب التي لا يعتمد عليها في المذهب الحنفي؛ لأن شدة الإيجاز يخل بالفهم غالبا، وهو بالتالي مظنة الوقوع في الأخطاء العلمية، ومزلة أقدام طلبة العلوم الشرعية).
فيا طالب العلم "لا تَغْتَرَّ بحافظٍ، وإن ظهر على الفقيه بمحفوظه، واستطالَ عليه باستحضاره؛ فإن مضايق المسائل تفضحه، وتحرير محارات العقول تؤخّره، حتى لا يبقى له موضعٌ عند الفقيه"!
وهذا أحدُ حفّاظ الحنابلة استطال على أحد فقهاء الحنفية بحفظه، حتى ظهر على الفقيه. فلمّا وصل إلى دقائق الفَهْم، توقًّف عن الكلام تماماً، فقال الفقيه "وهو نظام الدين يحيى بن يوسف بن محمد الصِّيْرَامي القاهري (ت:833هـ) " صائحاً في الملأ: (طاح الحفظُ يا شيخ، هذا مقام التحقيق!) فسكت ولم يردّ عليه.
من هنا تعلم أن لـ"ظاهرة الاقتصار على الحفظ"، سلبيات عامة في الساحة العلمية، ومزالق جسيمة بين طلبة العلم، بعضها آخذ برقاب بعض؛ إلا أنني أردت نشرها وتفصيلها وطرح كل واحدة منها على حدة؛ لمزيد العناية بها، وبيان أثرها.
المبحث الثاني: أثر المبالغة في الحفظ والإكثار منه على العلم وأهله:
لذلك عدة آثار:
الأثر الأول: اغترار الحافظ بالمبالغة في رفع قدره:
هذا يظهر غالبا عند صغار السن وعامة الناس، فالحافظ كثيرا ما يُصدَّر لدى هؤلاء كما سبق، بينما قد يجد غيره قلة الاحتفاء به، وبما يكتب مهما بلغت جودة ما يقول أو يكتب؛ لأن نفوسنا منساقة إلى المشهود الحسي، وعقولنا مردومة بمعلومات مكرورة خيرنا من يحسن توظيفها أو استحضارها عند الحاجة، أما تحليلها وتفكيك رموزها وبسطها للبحث والمراجعة؛ فذاك مرتقى صعبٌ يتطلب التفكير العميق، والتأمل المستمر، وهذا ما لم يُعرف في كثير ممن اعتلى صهوة الحفظ، وأنى لهم ذلك بلا ثني الركب بين صفحات الكتب للبحث والتأمل!! وإذا ما اضطرهم الحال جنحوا إلى النقل أو الاقتباس مع معاناة وجهد!!
يقول ابن عاشور: (وكان معنى العلم عندهم هو سعة المحفوظات سواء من علوم الشريعة أم من علوم العربية، فلا يعتبر العالم عالماً ما لم يكن كثير الحفظ، نعم. إنه إن ضمَّ إلى ذلك الاستنباط والتحقيق، نال شهرة كبرى، ولكن لا يُعَدُّ عالما ما لم يكن كثير الحفظ، وليس العلم عندهم إلا الحفظ؛ لأنهم كانوا يميلون إلى شيء محسوس مشاهد في العالِم، - ومن المعلوم أن الذكاء والنباهة لا يشاهد لأحد-).
الأثر الثاني: دور ثقافة "احفظ فكل حافظ إمام" و"من حفظ الأصول حاز الفنون" التي جَعلت الحفظ هو مدار العلم وما سواه فلا!
¥