تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

حينما يُعلي البعض من شأن المختصرات وحفظها ويردد دوماً "احفظ فكل حافظ إمام" وكأن الإمامة والتقدم في العلم لا تأتي إلا بكثرة المحفوظ!! وكأن الشافعي، وأبا حنيفة، ومالكًا، وأحمد في الفقه، وسيبويه، والكسائي في النحو مثلاً، لم يتقدموا إلا بمحفوظاتهم ولولاها ما كانوا أئمة, وفي هذا مغالطة كبيرة؛ فإمامتهم ناتجة عن أفهامهم لا عن محفوظاتهم، وإلا فقد عاصرهم وجاء من بعدهم من يزيد عنهم حفظاً. وقد قال أحدهم: ما يحفظه الشافعي زكاة حفظي، أي: لا يتجاوز خمسة بالمائة مما يحفظ, ومع ذلك أين مكانه من الشافعي؟ وهذا أبو حنيفة لم يعرف بكثرة محفوظاته ومع ذلك نال الإمامة في الفقه!! وربما أوقعهم في هذا الوهم ما يسمعون عن سعة محفوظات بعض الأئمة والعلماء الكبار، فيظنون أنها السبب الرئيس في إبداعهم؛ فقوة حافظة هؤلاء جزء من قوتهم العقلية.

والعجيب عند سالكي هذا النوع فحسب، أنهم أكثر الناس احتفاء بالمختصرات المعتصرة، والمتون الأشد إلغازا!! فإذا وجد أحدهم متنا جديدًا فذاك يوم سعده؛ لأن العلم عنده، ما هو إلا نسخ من المرقوم، ولصق في الذهن!!

وبمثل ذلك وغيره ضعف العلم، وقلّ العلماء المجددون على شاكلة الشاطبي وغيره، ويوشك أن يقضي العلم نحبه إذا دام الحال على هذا!!

يقول ابن عاشور (ت:1393هـ): (وبهذا تشهد طريقة التأليف عندهم إذ كانوا يعجبون بإكثار الأقوال والشواهد، وهذا هو معنى قولهم: إن كثرة التآليف أفسدت العلم، أو عاقت عن العلم، بل كانوا يعدون التهذيب والاختصار جناية على العلم؛ حيث يناله متعاطيه بلا تعب ومشقة).

تنبيه مهم:

نبه هذا العالم الجليل على مسألة عمت بها البلوى، وهي أن أولئك الحفظةَ، وغيرهم ممن اعتلى هذا المجال بلا استحقاقٍ، البحثُ والعلمُ عندهم ما هما إلا رصف للأقوال فحسب بلا نقد ولا تحليل؛ قد يكون ذلك بسبب أنهم يميلون لتقييد ما يسهل حفظه من الأقوال، فالنقل بلا شك أيسر من التأمل والتحليل!!

وهذه الثقافة للأسف انساق وراءها عدد كبير ممن يتقدمون للدراسات الشرعية، ودونكم جملة من تلكم الرسائل؛ لتروا أن الباحث زعموا! لم يكلف نفسه إلا بالمقدمة والفهارس - إن فعل - وما بين ذلك مزيج من النقول والحواشي!!

وربما أن ذلك كله ليس من عمل يده، ولا مما جاد به عقله!

فيا أسفي وحزني على العلم وأهله، حين امتطاه من ليس من حزبه، واستهان به بعض حامليه، فأرخصوه! وأهانوه فباعوه بألقاب زائفة! مما جعله لقمة سائغة لكل من أراد لقبا، أو شهرة!!

الأثر الثالث: ضعف ظاهر عند بعض الحفّاظ في "البحث العلمي"، وتحصيل "الملَكة العلمية":

لا شك أن (البحث والملكة) هما روح العلم ومادته التي تَجعله رائدًا ومتطورًا عبر الأزمان، وقابلا للتصحيح والمراجعة، وتأخيرهما في مناهج التحصيل معناه: طمس لحقائق العلوم، وقتل الإبداع والقدرات في مهدها.

ما الأمة التي تقدّم فيها البحث في العلوم الدينية والدنيوية، وأنشأت مراكزه، ورعت مواهبه وأغدقت عليهم؛ فتأخر دورها وخار عزمها؟!!

وضعف هذين "البحث والملَكَة" والتقليل من شأنهما، يكاد يكون نتيجة حتمية عند مفضلي "الحفظ" على غيره والمقتصرين عليه؛ لأنهم باختصار أوغلوا فيما هم فيهم؛ فجعلوا الحفظ هو غايتهم التي يطلبون، وأمنيتهم التي يحلمون بها، وربما أنهم عاجزون عن البحث أصالةً فلا طرقه يفقهون، ولا مناهجه يدركون!!

ولا أقول: الحفظ وحده هو الذي أخّر البحث، ولكنه جزء مما جعل دوره يَقلْ، والاهتمام به يَضْعف بين شريحة واسعة من طلبة العلم.

وإن كنت مؤمنا بضرورة تنوع الأدوار؛ لما في ذلك من التكامل والإعذار، إلا أن المشكلة تكمن في أن طائفة من أرباب الحفظ فحسب كثيرا ما يغلِّبون في طرحهم قيمة الحفظ، ولا يتطرقون لغيره إلا عَرضَا، مما يقلل من شأن هذا، ويرفع قدر ذاك!! وفي هذا بلا شك خطر جسيم على العلم وأهله لو لم يتدارك الأمر، وما عصر الانحطاط العلمي عنك ببعيد!!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير