تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قال صِدَّيق حسن خان القِنَّوْجِي (ت:1307): (الحفظ غيرُ الملكة العِلميّة، ومن كان عنايته بالحفظ أكثر من عنايته إلى تحصيل الملكة؛ لا يصل إلى طائل من ملكة التصرُّفِ في العلم. ولذلك ترى من حَصَّلَ الحفظَ لا يُحسن شيئاً من الفن، وتجد ملكته قاصرةً في علمه إن فاوَضَ أو ناظَرَ. ومن ظنَّ أنه المقصودُ من الملَكة العِلمية فقط أخطأ، وإنما المقصود هو ملكة الاستخراج والاستنباط وسرعة الانتقال من الدوالِّ إلى المدلولات ومن اللازم إلى الملزوم، وبالعكس. فإن ضمَّ إليها ملكة الاستحضار .. فنِعْمَ المطلوب. (إلى قال:) نقل الرازي عن الحكماء: إن الحفظ والفهم لا يجتمعان على سبيل الكمال، لأن الفهم يستدعي مزيد رطوبة في الدماغ، والحفظ يستدعي مزيد يبوسة، والجمع بينهما على سبيل التساوي ممتنعٌ في العادة).

ولا يلهج أحد بأن العلم انتهى والمسائل التي تحتاج للبحث لا تكاد توجد، أو أنها معدومة!! إلا كان صمته أسلم له من قوله؛ لأن ذلك جهل محض بالعلم، وعجز تام، واغتيال لعقل الإنسان وقدراته؛ فكم ترك الأول للآخر؟ ومن جهل فنًّا عاداه!!

كم نسمع هنا وهناك أن ثمة كتابًا بحاجة إلى إعادة تحقيق، وآخر وجد مخطوطا لسان حاله يقول: إلى متى سأبقى في طي النسيان؟!! أين أهل البحث وعشاق المعرفة؟!

وقل مثل ذلك في كثير من الرسائل المتميزة التي امتلأت بها رفوف المكتبات "الجامعية" تنتظر من يجود عليها لترى النور!!

أمّا إذا أتيت لمسائل العلم التي تحتاج للدراسة والبحث في كافة الفنون الشرعية بما في ذلك النوازل فذاك أمر طويل الذيل لا يمكن معالجته بباحث أو اثنين أو حتى دول!!

فأين هذا الذي يقول: لا توجد مسائل للبحث؟! وأين من يأتي ويقول عن علم ما: نضج واحترق؟!

فيا أخي، اربأ بنفسك أن تكون أضحوكة عند جمهور العلماء، وطلبة العلم الأفذاذ في كل عصر!

مثل هذا المنطق الذي شاع وللأسف عند جملة من المتعلمين كارثة على العلم! وتوقيع صريح على جهل قائله بمسالك العلم، ومنهج العلماء.

الأثر الرابع: عدم التوازن والاعتدال في مسالك العلم وطرقه:

لو قلّبت البصر في حال "طلبة العلم" و"العلماء" لوجدت أن أكثر الذين يمارسون الحفظ وتخزين المعلومات فحسب؛ هم أبعد الناس عن البحث العلمي كما سبق، وأضعفهم ممارسة لمناهجه وطرقه، وربما تجدهم أيضا أقل الناس قبولا للنقد والمراجعة.

والعكس أيضا؛ تجد أهل البحث العلمي يقومون بذات الدور في إقصاء غيرهم من أرباب "الحفظ"، وكل حزب بما لديهم فرحون!!

والمتوسطون من الفريقين قليل، والذين استطاعوا الجمع بين الطريقتين أقل، ولا شك أن العلم بحاجة لكلا الطريقتين، كما أن لاختلاف القدرات وتمايز العقول أثرًا في ترجيح إحدى الطريقتين على الأخرى.

لكن الذي لا أشك فيه – ولا ينبغي لي ذلك – هو أن "العلم" في عصوره المتأخرة أحوج ما يكون لنشر ثقافة "البحث العلمي"، وتفعيل دور "الاجتهاد والاستنباط"؛ لأن في ذلك نهضةً حقّةً لعلوم سلفنا الصالح، ومواكبة ضرورية ولازمة لحاجيات عصرنا ومتطلباته.

فهل يُدرك الحفّاظ ذلك؟

وتقاسم الأدوار في الزمن الأول كان حاضرًا دون إجحاف أو ميل لهذا أو ذاك، بل تجد الحافظ والفقيه يُجسّدان تكاملا راقيًا في البناء العلمي!!

قال إسحاق بن راهويه (ت:238هـ): ذاكرت الشافعي (ت:204هـ) فقال: (لو كنت أحفظ كما تحفظ لغلبت أهل الدنيا). قال البيهقي (ت:458هـ): (وهذا لأن إسحاق الحنظلي كان يحفظه على رسم أهل الحديث، ويسرد أبوابه سردا، وكان لا يهتدي إلى ما كان يهتدي إليه الشافعي من الاستنباط والفقه، وكان الشافعي يحفظ من الحديث ما كان يحتاج إليه، وكان لا يستنكف من الرجوع إلى أهله فيما ما اشتبه عليه منه، وذلك لشدة اتقائه لله عز وجل، وخشيته منه واحتياطه لدينه).

ولربما يقال لي: الحفظ عند السابقين كان أظهر!

وإن سلمتُ بذلك جدلا؛ لحاجة المتقدمين له، وعدم تدوين العلم مع قلة المال والأوراق؛ إلا أنني أعيد وأكرر: في هذه الأزمنة المتأخرة أحوج ما نكون لبث ثقافة الفهم المجرد، والبحث العلمي كأصل لا غنى لنا عنهما؛ متى أردنا ثروة علمية، ونهضة حضارية.

الأثر الخامس: عدم المراعاة لمبدأ التخصص:

الحافظ لمتون العلم يرى نفسه في الغالب مؤهلا للخوض في كل علم!! بل قد يسوِّغ لنفسه مقارعة كبار العلماء في تخصصاتهم وعلومهم!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير