ولا يفهم في هذا المجال أنني أصوِّب عدم المشاركة في باقي العلوم، أو أدعو إلى التحجير على العقول والاكتفاء بالتخصص فقط، لكن أدعو إلى مراعاة قول العالم في فنه الذي قضى فيه عمره بحثًا وقراءةً.
يقول ابن عاشور (ت:1393هـ): (على أنّ من أكبر الأسباب التي دعتهم إلى نظم العلوم ميل طلبة العلم إلى المشاركة في تعلُّم علوم جمَّة، وذلك مما يضيق عليهم أزمانهم؛ فتوسَّلوا إلى الحفظ بالمنظومات: فالطالب يحفظ لعلم القراءات منظومة "حِرز الأماني" للشاطبي القاسم بن فيرة، و"الأرجوزة الألفية" لابن مالك، و"أرجوزة ابن عاصم" في فقه المعاملات المسماة "تحفة الحكام"، و"السُّلَّم" للأخضري في المنطق، و"الجوهر المكنون" له في البلاغة، و"الخزرجيةَ" في العروض، و"الدرة" في الفرائض والحساب، و"رقم الحلل" في التاريخ، و"البيقونية" في مصطلح الحديث، و"لامية الأفعال" في التصريف، و"مقصورة" ابن دريد في اللغة).
ومع هذا الطغيان المعلوماتي، والتقنية المعاصرة، التي يسّرت طرق البحث، كثر التصنيف، وقلّ التدقيق؛ لهذا فإن مسألة التخصص قضية لا محيص عنها، فلا بد أن يعلم الحافظ أن حفظه لا يخدمه كثيرا في مجال البحث والتدقيق.
قال أبو هلال العسكري (ت: بعد395هـ): (ومن أراد أن يعلم كل شيء، فينبغي لأهله أن يداووه، فإن ذلك إنما تصور له لشيء اعتراه).
وقال محمد بن يزيد: (ينبغي لمن يحب العلم أن يَفتنَّ في كل ما يقدر عليه من العلوم إلا أنه يكون منفردًا غالبًا عليه منها علم يقصده ويبالغ فيه).
وقال الخليل بن أحمد (ت:170هـ): (إذا أردت أن تكون عالماً فاقصد لفنٍ من العلم، وإن أردت أن تكون أديباً فخذ من كل شيء أحسنه).
وقال الأصمعي: (ما أعاني إلا المنفرد). يعني: المتخصص عند المناظرة.
فـ"التقدم الرأسي في العلم يتطلب التخصص الدقيق، وتركيز الفكر والخبرة والبحث في بؤرة معرفية ضيقة، حتى يمكن الوصول إلى شيء جديد ذي قيمة.
إن التخصص هو أن يبني الإنسان معرفة مدققة في موضوع ما مكتفياً بالمعرفة العامة في باقي الموضوعات.
لا ينبغي أن يفهم من هذا أنني متحمس لإيجاد المتخصص المنغلق على نفسه؛ فهذا غير وارد، ولكن الذي أرمي إليه، هو أن يوجد لدينا عدد كبير من المتخصصين المنفتحين على التخصصات الأخرى، ولا سيما التخصصات والمعارف التي تتبادل التأثير والتأثر فيما بينها والتي يمثل كل منها امتداداً طبيعياً لغيره".
فالساحة العلمية اليوم أحوج ما تكون إلى المتخصصين المدققين في جميع مجالاتها وفنونها.
الأثر السادس: خلل في مفهوم "العلم" و"العالم":
وإن لم ينطق الحفاظ بذلك صراحة، إلا أنه واقع في أحوال المقتصرين على الحفظ، ومطروق في منتدياتهم في الغالب؛ فالعالِم عندهم هو الحافظ فحسب، والعلم هو الحفظ لا غير!!
ولعلّ مما يؤكّد هذا الخلل هو تباين المفاهيم في تحصيل العلم وأدواته، فالطريقة الشائعة التي تعتمد الحفظ والمتن فحسب وسيلة للعلم؛ تُصيِّر عند أربابها كل مَن لم يأخذ بها لم يكن عالمًا! فكأن المقصد والغاية هي الوسيلة نفسها وليس العلم؛ فالوسائل تختلف والطرق تتجدد بين المحصّلين للعلم، ومع هذا ينبغي أن يكون النظر لذات العلم فهمًا وملَكةً وبحثًا.
وقد سبق من قبل في كلام الطاهر ابن عاشور (ت:1393هـ) ما يؤكد وجود هذا الخلل إذ يقول: (وكان معنى العلم عندهم هو سعة المحفوظات سواء من علوم الشريعة أم من علوم العربية، فلا يعتبر العالم عالماً ما لم يكن كثير الحفظ .. ! ولكن لا يُعَدٌّ عالما ما لم يكن كثير الحفظ، وليس العلم عندهم إلا الحفظ؛ لأنهم كانوا يميلون إلى شيء محسوس مشاهد في العالِم، - ومن المعلوم أن الذكاء والنباهة لا يشاهد لأحد-).
فلا يعتبر العالم عالمًا ما لم يكن كثير الحفظ .. ؟!
هذا الأمر الذي ذكره ابن عاشور واشتكى منه (في تقديري) لم يأخذ حيزا كبيرا عند العلماء من قبل؛ فقد كانوا يدركون تمام الإدراك أن ثمة عالم بحفظ وفهم، وآخر بلا حفظ متقَن، وثالث بلا فهم تام، والذي لا يحفظ عندهم مطلقا لم يُسلب عنه لقب "العالم" ولا مسمى "العلم".
¥