قال حمزة السهمي (ت:427هـ): (سمعت أبا بكر بن عبدان يقول: يحيى بن صاعد يدري، ثم قال: وسئل ابن الجعابي، أكان ابن صاعد يحفظ؟ فتبسم! وقال: لا يقال لأبي محمد: يحفظ كان يدري! قلت لأبي بكر بن عبدان: إيش الفرق بين الدراية والحفظ؟ فقال: الدراية فوق الحفظ).
وسئل صالح بن محمد (ت:293هـ): هل كان ابن معين يحفظ؟ قال: لا إنما كان عنده معرفة. قيل له: فعلي؟ قال: كان يحفظ ويعرف.
وذكر السيوطي (ت:911هـ) في ترجمة شيخه جلال الدين المحلي (ت:864هـ) أنه (لم يكن يقدر على الحفظ، وحفظ كراساً من بعض الكتب، فامتلأ بدنه حرارة!!) مع أن السيوطي ذكر عنه أيضا أنه (كان علاّمة، آيةً في الذكاء والفهم؛ كان بعض أهل عصره يقول فيه: إن ذهنه يثقب الماس! وكان يقول عن نفسه: أنا فهمي لا يقبل الخطأ!!).
الأثر السابع: غياب الاجتهاد وتنمية العقل:
أعظم كارثة حلّت بالفكر الإسلامي تلك المقولة المشؤومة التي دعت لإغلاق الاجتهاد، أو تضييقه بأغلال من الشروط التي لا يمكن اجتماعها أو توفرها إلا في نبي من الأنبياء!!
ولا شك أن ظاهرة الحفظ لها تأثير بالغ على عدم إعمال العقل وتنمية الاجتهاد في البحث العلمي؛ لأن العقل (الحافظ فقط) في الغالب ينساق لمنهجية النقل المجرد العاري عن النقد والتوجيه! فالحافظ يؤدي كما حفظ، وينقل كما قرأ، يحتفل بآراء العلماء وينسى رأيه، ويجمع الأقوال والأدلة، ويرجح أحدَها ظنًّا منه أنه أتى بجديد دون دراية بمحالّ الاستدلال، ولا يدري أنه أجهز على عقله!
فمن أين لـ"لحافظ فقط" أن يجتهد، أو أن يقيس، أو أن يأتي بجديد سوى ما حفظ وهو مسطور في كتب العلماء لو أراده أحد لرجع إليه؟!
قال الجاحظ (ت:255هـ): (وكرهت الحكماءُ والرؤساءُ، أصحابُ الاستنباطِ والتفكير: جودةَ الحفظ، لمكان الاتِّكال عليه، وإغفال العقل من التمييز، حتى قالوا: الحفظُ عِذْقُ الذِّهن. ولأن مستَعمِلَ الحفظ لا يكون إلا مقلِّدًا، والاستنباطُ هو الذي يُفضي بصاحبه إلى بَرْد اليقين وعِزِّ الثقة).
بل هذا الإمام الشافعي (ت:204هـ) يمنع الحافظَ للكتاب والسنن وأقاويل السلف بغير إدراك لحقيقة معانيها من أن يجتهد، فقال (رحمه الله): (ومن كان عالماً بما وصفنا بالحفظ، لا بحقيقة المعرفة، فليس له أن يقول أيضاً بقياس؛ لأنه قد يذهب عليه عَقْلُ المعاني. وكذلك لو كان حافظاً مُقَصِّرَ العقل، أو مُقَصِّراً عن علم لسان العرب، لم يكن له أن يقيس، من قِبَلِ نقص عقله عن الآلة التي يجوز بها القياس. ولا نقول يسعُ هذا (والله أعلم) أن يقول أبداً إلا اتّباعاً، لا قياساً).
والاجتهاد في العلم عند تحصيله من طرقه تمرين النفس على الفهم منذ الصغر، واعلم يا محب العلم، أن الاستنباط هو سعادة العقل، وهو روح العلم، وقلبه النابض؛ متى توقف؛ فقل على العلم السلام!! وتنمية العقل والفهم خير دليل على ذلك. قالت الحكماء: (حياة العلم الفهم).
وقال ابن الجوزي: (أقل موجود في الناس الفهم والغوص على دقائق المعاني).
الخاتمة:
المحصّل أننا في مثل هذا الموضوع نحتاج إلى "التوسط والاعتدال"، فالصحابي الجليل أبو هريرة رضي عنه لو لم يحفظ، لما استنبط العلماء من الصحابة وغيرهم كثيرًا من الأحكام، وأهل الحديث لو لم يحفظوا ودونوا، لما كتب الفقهاء ودونوا وبحثوا، فتقسيم الأدوار بلا حيف أولى من التلاوم والخصام، والتوازن في المجالات أيُّها أولى وأهم من صميم الفقه للمرحلة؟
قال ابن القيم (ت:751هـ): (علم أبن عباس كالبحر، وفقه واستنباطه وفهمه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناس، وقد سمع كما سمعوا، وحفظ القرآن كما حفظوا، ولكن أرضه كانت من أطيب الأراضي وأقبلها للزرع، فبذر فيها النصوص؛ فأنبتت من كل زوج كريم "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم"، وأين تقع فتاوى أبن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟ وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق؛ يؤدي الحديث كما سمعه، ويدرسه بالليل درسا؛ فكانت همته مصروفة إلى الحفظ، وبلّغَ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط، وتفجير النصوص وشق الأنهار منها واستخراج كنوزها).
¥