تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهنا أسأل: هل الحاجة للحفظ في الزمن الأول كما هي اليوم؟! وهل حاجتنا الآنية وحاجة العلم المستقبلية في تكريس الحفظ أم البحث؟! ثم ما الذي أضعف العلم في عصوره المتأخرة؟ أليس هو ضعفنا في مجال البحث وتحليل المعلومات؟!

وأخيرًا: نحن بحاجة دائمة إلى المقارنة بين ما نفعه متعدٍ، وما كان قاصرا على صاحبه في الغالب، لمن يمتلك أداتين، ولا شك أن المكتوب من العلم في كثير من الأحوال أبقى وأنفع من المطبوع في الذهن الذي لا يبرح مكانه.

قال ابن عاشور (ت:1393هـ): (تطاولت الأحقاب وتعارفت الأمم، واقتبس بعضهم معارف بعض عن بصيرة أو تقليد، فتمازجت العلوم، وتباهى المقتبس بما اقتبس، ووُجد قومٌ لا قدرة لأذهانهم على الوصول إلى حقائق الأشياء والانتفاع بأرواحها، ولكن لهم همّة تسموا بهم إلى الاتّسام بميسم أربابها، فأخذ الناس علوماً لا يحتاجون إليها تباهياً بها، واقتصروا من علوم عالية على ألفاظ وحقائق يسردونها، وأبهت الناسَ أقوام بقوة حوافظهم (وإن كانوا ضعفاء الفكر) فسردوا لهم قماطير عن ظهر القلب، وخيلوا لهم أن ذلك أيضاً ضرب من العلم عظيم، فقلّدهم قوم على تقليدهم، وخارت عزائم قوم عجزوا عن متابعتهم، وعارضهم آخرون نقصوا من قيمة عَملهم، منهم من عارض في نفسه وخانته عبارته، ومنهم من عبّر عن فساد ذلك، وقليل ما هم!! فأصبحت قلة هؤلاء وكثرة أولئك وبالاً عظيماً على العلم، وهو أصل تشعب الناس في العلوم، وابتهاج كلِّ فريق بنصيبه منها).

وهنا يتعيّن "على طالب العلم (أو على مُوَجِّهِهِ) إذا ما أحب أن يبلغَ درجةَ الفقهاء في العلوم، وأن لا يقتصرَ على درجة الناقل: أن لا يجعل غالبَ وقته وعامّةَ جهده مقصورًا على الحفظ، حتى في زمن الطفولة، لأن تكوُّنَ المَلَكَات يبدأ من الصغر، وكما قيل: من شبَّ على شيءٍ شابَ عليه.

وتعوُّدُ القلب على الحفظ دون الفهم والتأمُّلِ والتحليلِ يُضعف هذه الملكات، حتى تَضْمُر، فلا يمكن بعد ذلك (غالبًا) أن تعود إلى نشاطها الفطري، فضلاً عن أن تبلغ نشاطَها المكتسَبَ الذي كان يمكن أن تصل إليه بالتمرين".

فيا حملة العلم وطلابه كونوا من الذين عبروا عن فساد هذا النوع، واختزال العلم فيه، وبينوا ما فيه من الخلل والضعف، ولما ينتجه من آثار (حالية ومستقبلية)؛ فالميادين العلمية والعملية تَسر العدو وتُحزن الصديق.

أيُّ معنًى لكون هذه الظاهرة بجملتها ولدت، ونشأت، وترعرعت، وشابت في عصور ما يسمى بـ"الانحطاط"!! والعجيب أنها تجاوزت جميع مراحل النمو لكنها لم تمت بعد!!

والأعجب منه أننا مدركون تمام الإدراك أن من آثارها ما يعاني منه التعليم اليوم قاطبة من ضعف الإنتاج والتأثير، ومع هذا تجد من يرفع عقيرته للدفاع عنها!! ولرفع الوهم أقول: ليس ذلكم هو الداء الوحيد فحسب، لكنه الداء الأهم والأبرز، وهل أمة سادت بغير التعلم؟

هذا الداء (ضعف التعليم) يصح وصفه بالموت البطيء؛ لأنه ينخر في جسد الأمة شيئا فشيئا حتى تسقط أو تكاد، فتبقى جسدا بلا روح، وهيكلاً خاويًا لا تُهاب من أحد ولا تبني مستقبلها بنفسها، تلكم هي: "الغثائية" التي أخبر عنها الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام!!

والإسلام حاشاه أن يدعو للتخلف والوهن الذي أصاب عقولنا وخدّرها، قبل أن يبسط علينا رداءه كأمة!! أسأل الله لأمة الإسلام النصر والتمكين في كافة المجالات العلمية والعملية ..

إلى هنا أعلن استغفاري فيما أخطأت فيه، وأذعن لربي بالحمد والعرفان فيما أصبت فيه، فالحمد لله رب العالمين أولا وآخرا وظاهر وباطنا .. على ما وهب من النعمة والفضل، ومنح من العافية والفهم، وخير ختام كلام ربنا جلّ في علاه، قال تعالى:"كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب" [ص:29].


(1) أخرجه البخاري (71).
(2) أخرجه البخاري (5033)، ومسلم (791).
(3) تذكرة السامع والمتكلم لا بن جماعة (ص:113).
(4) أخرجه مسلم (798).
(5) الحث علي حفظ العلم لابن الجوزي (ص:11).
(6) صحيح البخارى ط: البغا (1/ 55).
(7) فتح الباري (1/ 214).
(8) أخرجه الترمذي (2656)، وصححه ابن حبان واللفظ له (1/ 270).
(9) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب (2/ 250).
(10) المصدر السابق.
(11) المصدر السابق.
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير