قول أحمد بن حنبل (3): (إذا قال ابن جريج قال فلان وقال فلان وأخبرت جاء بمناكير، وإذا قال أخبرني وسمعت فحسبك به) اهـ.
وقال أيضاً (4): (إذا قال ابن جريج قال فاحذره، وإذا قال سمعت أو سألت جاء بشئ ليس في النفس منه شئ) اهـ.
وقال يحيى بن سعيد القطان (5): (كان ابن جريج صدوقاً فإذا قال حدثني فهو سماع وإذا قال أخبرنا أو أخبرني فهو قراءه وإذا قال قال فهو شبه الريح) اهـ.
وقال أحمد بن صالح المصري (6): (ابن جريج إذا أخبر الخبر فهو جيد وإذا لم يخبر فلا يعبأ به) اهـ.
قلت: والكلام على هذا سيأتي إن شاء الله تعالى بتفصيل أكثر في الفصل الثالث والرابع، ونختصر الكلام عنا فنقول:
أولاً: أن كلام هؤلاء الأئمة، وخاصة تفصيل يحيى القطان يدل على أن ابن جريج (واضح التدليس) لا (خفي التدليس)، وهذا ييسر معرفة الروايات المدلسة (1).
ثانياً: أنهم لم يذكروا (العنعنة)، لأن الغالب في العنعنة أنها من تصرف الرواة لا من لفظ الحديث، فالاستدلال بهذه الأقوال على رد العنعنة أو التوقف فيها لا يتم ـ وسيأتي إن شاء الله تعالى ـ.
ثالثاً: أن الوقوف على نفس الصيغة التي نطق بها (ابن جريج) تصعب كثيراً، كما قال الذهبي عند كلامه على تدليس (الوليد بن مسلم) (2):
وهذا في زماننا يعسر نقده على المحدث، فإن أولئك الأئمة كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود عاينوا الأصول وعرفوا عللها وأما نحن فطالت علينا الأسانيد وفقدت العبارات المتيقنة) اهـ.
رابعاً: أن الإمام أحمد قال (إذا قال ابن جريج قال فلان وقال فلان وأخبرت جاء بمناكير)، وهذا حكم (واقع) لا (إخبار بضابط تقاس به مروياته) حيث قال (جاء بمناكير)، فإذا كان الحديث مستقيماً كان الراجح أنه متصل كما هو ظاهر.
خامساً: أن كثيراًً من تدليس ابن جريج ـ إن لم يكن أكثره ـ كما يظهر من الكلام السابق ومن مجموع مروياته يكون بلفظ (حدثت عن، وأخبرت عن)، بحيث يظهر فيها الانقطاع وعدم السماع أصلاً، وإنما سمي تدليساً من باب التجوز، ويدل عليه كلام الإمام أحمد السابق، وقوله أيضاً (3): (رأيت سنيداً عند الحجاج بن محمد وهو يسمع منه كتاب الجامع يعني لابن جريج فكان في الكتاب ابن جريج قال أخبرت عن يحيى بن سعيد، وأخبرت عن الزهري، وأخبرن عن صفوان بن سليم، فجعل سنيد يقول لحجاج: قل يا أبا محمد بن جريج عن الزهري، وابن جريج عن يحيى بن سعيد، وابن جريج عن صفوان بن سليم، فكان يقول له هكذا، ولم يحمده أبي، فيما رآه يصنع بحجاج وذمه على ذلك، قال الإمام أحمد: وبعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة كان ابن جريج لا يبالي من أين يأخذه يعني قوله أخبرت وحدثت عن فلان) اهـ، وقال عبد الرزاق (1): (قدم أبو جعفر يعني الخليفة مكة فقال اعرضوا علي حديث ابن جريج فعرضوا فقال ما أحسنها لولا هذا الحشو الذي فيها يعني قوله بلغني وحدثت) اهـ.
فإذا تبين هذا، فإنه إذا وردت رواية لابن جريج بالعنعنة فإنها تحمل على الاتصال لأن إسقاط عبارة (حدثت وأخبرت) تقدح بمن أسقطها لأنها تدليس وتسوية للسند، فحيث كان الراوي عن ابن جريج ثقة حافظ فإن عنعنته على الاتصال. ثم إذا أتينا للمتأخرين وجدنا ما يلي:
قال العلائي رحمة الله عنه (2): (يكثر من التدليس).
ثم وجدنا أن ابن حجر رحمه الله قد وضع ابن جريج في المرتبة الثالثة وهي (من أكثر من التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع ومنهم من رد حديثهم مطلقاً ومنهم من قبلهم) اهـ.
وقد سبق أن ذكرت أن الأئمة ميزوا ما سمعه ابن جريج مما لم يسمعه (3)، وأن روايته مقبولة عندهم، والعجيب أن ابن حجر نفسه ذكر في الفتح أنه قليل التدليس حيث قال في رواية لابن جريج عن صالح بن كيسان عن نافع (4): (وقد سمع ابن جريج من نافع كثراً، وروى هذا عنه بواسطة وهو دال على قلة تدليسه والله أعلم) اهـ.
وقال في رواية لابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع (5):
(فيه إدخال الواسطة بين ابن جريج ونافع، وابن جريج قد سمع الكثير ففيه دلالة على قلة تدليس ابن جريج، وروايته عن موسى من نوع رواية الأقران) اهـ. وقال في رواية له عن ابن أبي مليكة عن نافع (6):
(وفي الحديث ما يدل على قلة تدليس ابن جريج، فإنه كثير الرواية عن نافع ومع ذلك أفصح بأن بينهما في هذا الحديث واسطة) اهـ.
وقال في رواية له عن عبيد الله بن عمر عن عمر بن نافع عن نافع (1):
(حفص وعبيد الله بن عمر وشيخه هنا عمر بن نافع، والراوي عنه هو ابن جريج أقران متقاربون في السن واللقاء والوفاة واشترك الثلاثة في الرواية عن نافع، فقد نزل ابن جريج في هذا الإسناد درجتين وفيه دلالة على قلة تدليسه) اهـ.