وكذلك كانت دعوة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم لقومه وللناس كافة، أمرهم بتوحيد الله وقول لا إله إلا الله فأبوا عليه إلا قليلاً ممن آمن، وكان يرسل إلى الملوك يدعوهم إلى التوحيد، كما جاء في رسالته إلى هرقل: " و (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) " (رواه البخاري (1/ 32) ومسلم (1773)).
ولما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن قال له: " إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله " وفي لفظ: " إلى عبادة الله " وفي لفظ: " إلى أن يوحدوا الله " (رواه البخاري (3/ 261) و (3/ 322) و (13/ 347) ومسلم (19)).
فدلت هذه النصوص وغيرها على أن عبادة الله وحده وعدم الإشراك به هو أصل الدين وهو معنى لا إله إلا الله، وهو ما يسميه العلماء توحيد الإلهية، وتوحيد العبادة، ولم تخل شريعة من شرائع الرسل من هذه الدعوة لأنها هي الإسلام الذي لا يرضى الله عز وجل ديناً غيره كما قال: (إن الدين عند الله الإسلام) (آل عمران: 19).
وقال (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (آل عمران: 85).
ولقد فهم المشركون الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم معنى كلمة التوحيد لما دعاهم إليها فقالوا كما حكى القرآن عنهم (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) (ص: 5).
فهموا أن معناها ترك الآلهة والأنداد وما يتبع ذلك من أمور الجاهلية، وتوحيد الخالق بالعبادة، والتي تستلزم كمال الخضوع له والانقياد، المستلزم زوال طاغوت الجاهلية.
إذ العبادة (هي الطاعة والخضوع، يقال: طريق معبد إذا كان مذللاً بكثرة الوطء.
والتعبد هو التنسك، والعبودية هي الخضوع والتذلل. وقول الله تعالى (إياك نعبد) أي: إياك نوحد.
والعابد هو الخاضع المستسلم المنقاد لأمر المعبود) ("لسان العرب" (3/ 270 - 274 مادة عبد)).
وتأتي العبادة أيضاً بمعنى الدعاء والطلب كما في قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) (غافر: 60)، وكقوله تعالى: (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً. فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله .. ) (مريم: 48 - 49).
وقد تكرر ذكر العبادة في القرآن بمعنى الدعاء والقصد والطلب، إذ كانت هذه أكثر عبادة المشركين في كل أمة لأصنامهم وأنداد هم ومعبودا تهم.
قال تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) (الزمر: 3).
وقال عز وجل: (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيراً) (الفرقان: 55).
وقال سبحانه مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين) (غافر: 66).
وقد صح من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الدعاء هو العبادة " ثم قرأ قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم .. ) الآية (رواه أبو داود (1479) والترمذي (2973)).
ولقد كان أكثر عبادة المشركين الأولين لأصنامهم وأنداد هم وأوثانهم بدعائهم وسؤالهم من دون الله، وهم مع ذلك كانوا يعبدون الله ويدعونه ويلجأون إليه، فجمعوا بين الإيمان به والشرك معه، كما قال تعالى عنهم: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) (يوسف: 106).
**
(ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله)
ثم اعلم - رحمك الله - أن المشركين الذين بعث فيهم رسول صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بوجود الله وبربوبيته وتصرفه وتدبيره للأمور، وأنه الخالق الرازق المحيي المميت، وأن آلهتهم التي يعبدونها لا تفعل شيئاً من ذلك وإنما يدعونها ويلجأون إليها لتشفع لهم عند الله، ويجعلونها بمثابة الوسطاء عند الملك يرفعون إليه حاجة من توسل بهم، ويزعمون أن الله لا يستجيب لهم حتى يشفع هؤلاء الوجهاء المقربون.
ومن الأدلة على ذلك:
¥