تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقال القاضي أبو يعلى في "المعتمد": من سبَّ الله أو سبَّ رسوله فإنه يكفر، سواء استحل سبَّه أو لم يستحله، فإن قال:" لم أستحل ذلك " لم يقبل منه في ظاهر الحكم، رواية واحدة، وكان مرتداً؛ لأن الظاهر خلاف ما أخْبَرَ؛ لأنه لا غرض له في سبَّ الله وسبَّ رسوله إلا أنه غير معتقد لعبادته غيرُمصدق بما جاء به النبي ?، ويفارق الشاربَ والقاتلَ والسارقَ إذا قال:" أنا غير مستحل لذلك " أنه يصدق في الحكم، لأن له غرضاً في فعل هذه الأشياء مع اعتقاده تحريمها، وهو ما يتعجل به من اللذة، قال: وإذا حكمنا بكفره فإنما نحكم به في ظاهر من الحكم، فأما في الباطن فإن كان صادقاً فيما قال فهو مسلم، قلنا في الزنديق: " لا تقبل توبته في ظاهر الحكم ".

وذكر القاضي عن الفقهاء أن سابّ النبي ? إن كان مستحلاً كفر، وإن لم يكن مستحلاً فسق، ولم يكفر كسابِّ الصحابة، وهذا نظير ما يحكى أنه بعض الفقهاء من أهل العراق أفتى هارونَ أميرَ المؤمنين فيمن سبَّ النبيَّ ? أن يجلده، حتى أنكر ذلك مالك، وردَّ هذه الفُتْيا مالك، وهو نظير ما حكاه أبو محمد بن حزم أن بعض الناس لم يكفر المستخفَّ به.

وقد ذكر القاضي عياض بعد أن ردَّ هذه الحكاية عن بعض فقهاء العراق والخلاف الذي ذكره ابن حزم بما نقله من الإجماع عن غير واحد، وحَمَلَ الحكاية على أولئك لم يكونوا ممن يُوثَقُ بفتواه لميل الهوى به، أو أن الفتوى كانت في كلمة اختلف في كونها سبّاً، أو كانت فيمن تاب، وذكر أن السابَّ إذا أقر بالسبِّ ولم يتب منه قتل كفراً؛ لأن قوله إما صريح كفر كالتكذيب ونحوه، أو هو من كلمات الاستهزاء أو الذم، فاعترافُه بها وتركُ توبته منها دليلٌ على استحلاله لذلك، وهو كفر أيضاً، فهذا كافر بلا خلاف.

وقال في موضع آخر: " إن من قتله بلا استتابة فهو لم يره رِدَّةً، وإنما يوجب القتل فيه حداً وإنما نقول ذلك مع إنكاره ما شهد عليه به أو إظهاره الإقلاعَ عنه والتوبةَ، ونقتله حداً كالزنديق إذا تاب ".

قال: " ونحن وإن أثبتنا له حكم الكافر في القتل فلا نقطع عليه بذلك، لإقراره بالتوحيد، وإنكاره ما شُهد به عليه، أو زعمه أن ذلك كان منه ذهولاً ومعصية وأنه مُقْلع عن ذلك نادم عليه ". قال: وأما من علم أنه سبَّه معتقداً لاستحلاله فلا شك في كفره بذلك، وكذلك إن كان سبُّه في نفسه كفراً كتكذيبه أو تكفيره ونحوه؛ فهذا مالا إشكال فيه، وكذلك من لم يُظهر التوبة واعترف بما شُهِدَ به وصمم عليه فهو كافر بقوله واستحلاله هَتْكَ حرمة الله أو حرمة نبيه، وهذا أيضاً تثبيت منه بأن السبَّ يكفر به لأجل استحلاله له إذا لم يكن في نفسه تكذيباً صريحاً.

وهذا موضع لابُدَّ من تحريره، ويجب أن يعلم أن القول بأن كفر السابِّ في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السبَّ زلَّةٌ منكرة وهفوة عظيمة، ويرحم الله القاضي أبا يعلى، وقد ذكر في غير موضع ما يناقض ما قاله هنا، وإنما وقع مَنْ وقع في هذه المَهْواة بما تلقوه من كلام طائفة من متأخري المتكلمين - وهم الجهمية الإناث الذين ذهبوا مذهب الجهمية الأولى في أن الإيمان هو مجرد التصديق الذي في القلب وإن لم يقترن به قولُ اللسان ولم يقتض عملاً في القلب ولا في الجوارح - وصرح القاضي أبو يعلى هنا، قال عَقِبَ أن ذكر ما حكيناه عنه: " وعلى هذا لو قال الكافر: أنا معتقد بقلبي معرفة الله وتوحيده، لكني لا آتي بالشهادتين كما لا آتي غيرها من العبادات كسلا. لم يحكم بإسلامه في الظاهر، ويحكم به باطناً "، قال: وقول الإمام أحمد " من قال إن المعرفة تنفع في القلب من غير أن يتلفظ بها فهو جهمي " محمولٌ على أحد وجهين؛ أحدهما: أنه جهمي في ظاهر الحكم، والثاني: على أن يمتنع من الشهادتين عناداً؛ لأنه احتج أحمد في ذلك بأن إبليس عَرَفَ ربه بقلبه ولم يكن مؤمناً.

ومعلومٌ أن إبليس اعتقد أن لا يلزم امتثال أمره تعالى (بالسجود) لآدم، وقد ذكر القاضي في غير موضع أنه لا يكون مؤمناً حتى يصدِّقَ بلسانه مع القدرة وبقلبه، وأن الإيمان قول وعمل، كما هو مذهب الأئمة كلهم: مالك، وسفيان، والأوزاعي، والليث، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ومن قبلهم وبعدهم من أعيان الأمة.

وليس الغرض هنا استفياء الكلام في الأصل، وإنما الغرض البينة على ما يختص هذه المسألة، وذلك من وجوه:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير