وقد تكلم قوم في معنى هذا الحديث فأتوا بما لا حاصل له، قال المهلب: معناه من تركها مضيعاً لها، متهاوناً بفضل وقتها مع قدرته على أدائها، حبط عمله في الصلاة خاصة، أي لا يحصل له أجر المصلى في وقتها، ولا يكون له عمل ترفعه الملائكة.
وحاصل هذا القول أن من تركها فإنه أخرها. ولفظ الحديث ومعناه يأبى ذلك، ولا يفيد حبوط عمل قد ثبت وفعل، وهذا حقيقة الحبوط في اللغة والشرع، ولا يقال لمن فاته ثواب عمل من الأعمال أنه قد حبط عمله، وإما يقال فاته أجر ذلك العمل، وقالت طائفة: يحبط عمل ذلك لا جميع عمله، فكأنهم استصعبوا حبوط الأعمال الماضية كلها بترك صلاة واحدة، وتركها عندهم ليس بردة تحبط الأعمال، فهذا الذي استشكله هؤلاء هو وارد عليهم بعينه في حبوط عمل ذلك اليوم. والذي يظهر في الحديث - والله أعلم بمراد رسوله - أن الترك نوعان: ترك كلي لا يصليها أبداً فهذا يحبط العمل جميعه، وترك معين في يوم معين فهذا يحبط عمل ذلك اليوم، فالحبوط العام في مقابلة الترك العام، والحبوط المعين في مقابلة الترك المعين.
فإن قيل: كيف تحبط الأعمال بغير ردة؟ قيل: نعم، قد دل القرآن والسنة والمنقول عن الصحابة أن السيئات تحبط الحسنات كما أن الحسنات يذهبن السيئات. قال تعالى?يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى? (البقرة:264)، وقال?يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون? (الحجرات:2).
وقالت عائشة لأم زيد بن أرقم: أخبري زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب - لما باع بالعينة - وقد نص الأمام أحمد على هذا فقال: ينبغي للعبد في هذا الزمان أن يستدين ويتزوج لئلا ينظر ما لا يحل فيحبط عمله.
وآيات الموازنة في القرآن تدل على هذا، فكما أن السيئة تذهب بالحسنة أكبر منها، فالحسنة يحبط أجرها بسيئة أكبر منها.
فإن قيل: فأي فائدة في تخصيص صلاة العصر بكونها محبطة دون غيرها من الصلوات؟ قيل: الحديث لم ينف الحبوط بغير العصر إلا بمفهوم لقب، وهو مفهوم ضعيف جداً. وتخصيص العصر بالذكر لشرفها من بين الصلوات، ولذا كانت هي الصلاة الوسطى بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح، ولهذا خصها بالذكر في الحديث الآخر وهو قوله: [الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله] أي فكأنما سلب أهله وماله فأصبح بلا أهل ولا مال، وهذا تمثيل لحبوط عمله بتركها كأنه شبه أعماله الصالحة – بانتفاعه وتمتعه بها – بمنزلة أهله وماله فرجع وقد اجتيح الأهل والمال فبقى وتراً دونهم، وموتوراً بفقدهم، فلو بقيت عليه أعماله الصالحة لم يكن التمثيل مطابقاً.
فصل
والحبوط نوعان: عام، وخاص. فالعام حبوط الحسنات كلها بالردة، والسيئات كلها بالتوبة. والخاص حبوط السيئات والحسنات بعضها ببعض، وهذا حبوط مقيد جزئي، وقد تقدم دلالة القرآن والسنة والآثار وأقوال الأئمة عليه. ولما كان الكفر والإيمان كل منهما يبطل الآخر ويذهبه كانت شعبة واحدة منهما لها تأثير في إذهاب بعض شعب الأخر، فإن عظمت الشعبة ذهبت في مقابلتها شعب كثيرة.
وتأمل قول أم المؤمنين في مستحل العينة: إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف قويت هذه الشعبة التي أذن الله فاعلها بحربه وحرب رسوله على إبطال محاربة الكفار، فأبطل الحراب المكروه الحراب المحبوب كما تبطل محاربة أعدائه التي يحبها، محاربة التي يبغضها. والله المستعان.
تعريف الردة وأنها تكون بالقول والفعل والاعتقاد والشك:
س: يقال إن الردة قد تكون فعلية أو قولية فالرجاء أن تبينوا لي باختصار واضح أنواع الردة الفعلية والقولية والاعتقادية؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ... وبعد:
¥