الإيمان -عند أهل السنة والجماعة- حقيقة مركبة من عناصر ثلاث: اعتقاد القلب، وشهادة اللسان، وعمل الجوارح، فإذا تخلف عنصر منها بطل الإيمان، فمن شهد بلسانه ألاّ إله إلاّ الله ولم يؤمن بها قلبه فهو كافر منافق وإن صلى وصام وجاهد وحج. وإن أقر بقلبه بالشهادتين ولم يشهد بلسانه من غير عذر فهو كافر وإن عمل بعض أعمال الإسلام كما كان شأن أبي طالب عم رسول الله ? فقد قام مع الرسول ونصره، وكان يعتقد صدقه ولكنه امتنع عن الشهادة ظاهراً خوفاً أن يعير بترك دين الآباء فمات على الكفر من أجل ذلك.
ومن شهد بلسانه وأقر قلبه ولكنه تولى عن عمل الإسلام كله اختياراً فلم يصل، ولم يصم، ولم يزك، ولم يحج فهو كافر كذلك كفراً يخلده في النار ...
وهذا الأخير هو الذي تدور المعركة عليه بين أهل السنة والجماعة وبين المرجئة القائلين بأنه مؤمن كامل الإيمان، وإن ترك العمل، أو مؤمن عنده أصل الإيمان، كما يقوله من يسمونهم بمرجئة الفقهاء.
قال محمد بن الحسين الآجري -رحمه الله-: " اعلموا -رحمنا الله تعالى وإياكم-: أن الذي عليه علماء المسلمين: أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق القلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح.
ثم اعلموا: أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق، إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقاً، ولا تجزئ المعرفة بالقلب، ونطق اللسان، حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الثلاث خصال: كان مؤمناً ".
وقال أيضاً: اعلموا -رحمنا الله تعالى وإياكم- يا أهل القران، ويا أهل العلم، ويا أهل السنن والآثار، ويا معشر من فقههم الله عز وجل في الدين، بعلم الحلال والحرام- أنكم إن تدبرتم القرآن، كما أمركم الله عز وجل علمتم أن الله عز وجل أوجب على المؤمنين بعد إيمانهم به وبرسوله: العمل، وأنه عز وجل لم يثن على المؤمنين بأنه قد رضي الله عنهم، وأنهم قد رضوا عنه، وأثابهم على ذلك الدخول إلى الجنة، والنجاة من النار، إلا بالإيمان والعمل الصالح، وقرن مع الإيمان العمل الصالح، لم يدخلهم الجنة بالإيمان وحده، حتى ضمَّ إليه العمل الصالح، الذي وفقهم له، فصار الإيمان لا يتم لأحد حتى يكون مصدقاً بقلبه، وناطقاً لسانه، وعاملاً بجوارحه لا يخفى على من تدبر القرآن وتصفحه، وجده كما ذكرت.
واعلموا -رحمنا الله تعالى وإياكم- أني قد تصفحت القرآن فوجدت فيه ما ذكرته في ستة وخمسين موضعاً من كتاب الله عز وجل: أن الله تبارك وتعالى لم يدخل المؤمنين الجنة بالإيمان وحده، بل أدخلهم الجنة برحمته إياهم، وبما وفقهم له من الإيمان به والعمل الصالح، وهذا رد على من قال: " الإيمان: المعرفة " ورد على من قال: " المعرفة والقول، وإن لم يعمل " نعوذ بالله من قائل هذا ".
* وأما الكفر فهو -عند أهل السنة والجماعة- يكون بالاعتقاد، والقول والفعل والترك، فمن اعتقد عقيدة باطلة كمن ادعى أن لله نداً، أو ولداً، أو شريكاً في الملك، أو شريكاً في الألوهية، أو نفى عن الله ما أثبته لنفسه ... فهو كافر، ومن قال كلمة الكفر اختياراً من غير اضطرار، أو سبَّ الله، أو سبَّ رسوله، أو سبَّ دينه، أو استهزأ بالله، أو رسوله، أو دينه ولو لم يعتقد هذا بقلبه فهو كافر، ومن فعل فعلاً حكم الله بكفر فاعله كفراً ينقل عن الملة -فعله اختياراً من غير اضطرار- فهو كافر، ومن ترك العمل كله، أو الصلاة على وجه الخصوص فلم يصل لله ركعة فهو كافر ...
وقد خالف في هذا المرجئة فقالوا: لا يكون كفر إلا بالتكذيب والجحود، وأما بالعمل فلا يكفر أحد بأي عمل ما دام أنه لا يعتقده بقلبه.
وقد قام أهل السنة والجماعة منذ ظهرت هذه البدعة (بدعة الإرجاء) في العهد الأموي فكفروا القائلين بها، وشنعوا عليهم في كل مكان وحذروا من بدعتهم، فقال الإمام الزهري -رحمه الله-: " ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من هذه -يعني الإرجاء-. وقال ابراهيم النخعي: " المرجئة أخوف عندي على الإسلام من عدتهم من الأزارقة " وقال أيضاً: " الخوارج عندي أعذر من المرجئة ".
وقال يحي بن معين وقتادة: " ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء ". وقال شريك: " هم أخبث قوم ".
وأبطل أهل السنة والجماعة بدعة الإرجاء، وردوها، بنصوص الكتاب والسنة، وإجماع الأمة. وكذلك بالأدلة العقلية التي لا يمكن جحدها ولا ردها.
¥