ثم لسائل أن يسأل: ما هو الضابط الذي جعلكم تعدون الغالي في التعطيل من الفرق الضالة وغير معذور دون سائر الأشاعرة، فكل منهم خرج عن السنة وتأول الصفات بناء على تأصيل يخالف به منهج السلف ونحن نتكلم عن الأشاعرة والماتريدية كفرقة ذات منهج متميز فكل من خالف السنة بأصل مخترع فهو من الفرق الهالكة وهو غير معذور، هذا هو الأصل حين نتكلم عن الفرقة أما الكلام عن الواحد المعين فهذا شأن آخر.
ثم إن الغلو أمر نسبي: فلقائل أن يقول: المعتزلة أيضاً من أهل السنة وإنما يخرج من السنة الغلاة كالجهمية، ولقائل أن يقول: الشيعة من أهل السنة وإنما يخرج من السنة الغلاة كالإسماعيلية ونحوها، وهكذا دواليك حتى يدخل في أهل السنة كل مبتدع ولا يكاد يكون لدينا مبتدع أصلاً ولا فرقة هالكة، وهذا يتناغم وينسجم مع ما يسعى إليه القائمون على موقع الإسلام اليوم وعلى رأسهم المشرف العام من فرض رؤية الأمة الواحدة الناجية كلها والتنكر لمضمون حديث الفرق.
ثم إن مذهب السلف في الإعذار قائم على أصل: وهو أن من استفرغ جهده في إصابة الحق فأخطأه فهو معذور، وهذا لا فرق فيه بين الغالي وغير الغالي. ولا أعلم عن السلف أنهم فرقوا في هذا الأصل كما فرقت الفتوى، وإنما لم يعذروا بعض الغلاة كالباطنية ونحوهم وهؤلاء خارجون عن االملة ونحن كلامنا عن الفرق التي لم يكفرها السلف لكن حكموا بضلالها وأنها من الثنتين والسبعين فرقة.
قالت الفتوى: (ويجوز التعامل والتعاون معهم على البر والإحسان والتقوى، وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد تتلمذ على كثير من العلماء الأشاعرة، بل قد قاتل تحت راية أمراء المماليك حكام ذلك الزمان وعامتهم أشاعرة، بل كان القائد المجاهد البطل نور الدين زنكي الشهيد، وكذا صلاح الدين الأيوبي من الأشاعرة كما نص عليه الذهبي في سير أعلام النبلاء، وغيرهما كثير من العلماء والقواد والمصلحين)
قلت: في هذا الكلام التباس في أمرين، الأول: خلطت الفتوى بين اعتبار الفرقة ضالة هالكة وبين حكم التعامل مع منتسبيها، فقادة الجيوش وولاة الأمور ولو كانوا ضلاّلاً فيجب السمع لهم والطاعة والقتال تحت رايتهم ما داموا مسلمين .. وهذا دأب أئمة السلف لكن لم يقل أحد منهم إنهم مع هذا معذورون في مخالفتهم وأنهم من أهل السنة والجماعة.
الأمر الآخر: أن الفتوى خلطت بين حكم الفرقة كفرقة وبين حكم الواحد المعين ممن انتسب ليها، فإنا نعلم أن المعين قد يختلف حكمه بحسب تحقق الشروط وانتفاء الموانع، بل الواحد المعين وإن كان انتسابه للأشاعرة والماتريدية في العقيدة سيئةً لا يُعذر بها فقد يكون له حسنات توجب له من العفو والثناء فيما أحسن فيه .. لكن هذا خاص به لا يتعداه إلى كل أشعري ما تريدي فضلاً عن أن يعمم حكمه على الأشاعرة والماتريدية كلهم.
قالت الفتوى: (بل إن كثيراً من علماء المسلمين وأئمتهم أشاعرة وماتريدية، كأمثال البيهقي والنووي وابن الصلاح والمزي وابن حجر العسقلاني والعراقي والسخاوي والزيلعي والسيوطي، بل جميع شراح البخاري هم أشاعرة وغيرهم كثير، ومع ذلك استفاد الناس من عملهم، وأقروا لهم بالفضل والإمامة في الدين، مع اعتقاد كونهم معذورين فيما اجتهدوا فيه وأخطأوا، والله يعفو عنهم ويغفر لهم).
قلت: هنا أيضاً استعمال حكم الأفراد المعينين من العلماء لتعميمه على الفرقة كلها، وهذا خطأ، والحجة في الكتاب والسنة ليس في اختيار آحاد من العلماء لمذاهب معينة وإن كانوا ذوو فضل.
وإذا صح للمشايخ الاستدلال بفضل هؤلاء العلماء على اعتبار الأشاعرة من أهل السنة، فيصح لغيرهم الاستدلال بذلك على أن ما ذهبوا إليه هو نوع من الاجتهاد السائغ بل وتصحيح ما ذهبوا إليه من المخالفات للنصوص، وإذاً لم هناك أي داع لأن يكتب الشيخ الغنيمان شرحاً لكتاب التوحيد من صحيح البخاري ما دام أن شراحه من الأشاعرة وهم ليسوا على هذه الدرجة من الضلال بل هم مجرد متأولين مخطئون للصواب لكنهم من أهل السنة والجماعة، ومن رجع إلى مقدمة الشيخ لكتابه ذاك يعتريه العجب من كونه موقعاً على هذه الفتوى ..
¥