يكونوا يتحرون الدعاء، لا عند قبر أبي حنيفة ولا غيره.
ثم قد تقدم عند الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور المخلوقين (6) خشية الفتنة بها، وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه.
وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف، ونحن لو روي لنا مثل هذه الحكايات المسيبة (7) أحاديث عمن لا ينطق عن الهوى، لما جاز التمسك بها حتى تثبت. فكيف بالمنقول عن غيره؟
ومنها ما قد يكون صاحبه قاله أو فعله، باجتهاد يخطئ ويصيب، أو قاله بقيود وشروط كثيرة على وجه لا محذور فيه، فحرف النقل عنه، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن في زيارة القبور بعد النهي (1) فهم المبطلون أن ذلك هو الزيارة (2) التي يفعلونها، من حجها للصلاة عندها، والاستغاثة (3) بها.
ثم سائر هذه الحجج دائرة بين نقل لا يجوز إثبات الشرع به، أو قياس لا يجوز استحباب العبادات بمثله، مع العلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرعها، وتركه (4) مع قيام المقتضي للفعل بمنزلة فعله، وإنما يثبت العبادات بمثل هذه الحكايات والمقاييس - من غير نقل عن الأنبياء - (5) النصارى وأمثالهم.
وإنما المتبع في إثبات أحكام الله (6): كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسبيل السابقين أو الأولين، لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة، نصا واستنباطا بحال.
والجواب عنها من وجهين: مجمل ومفصل.
* أما المجمل: فالنقض: فإن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط كثير، بل المشركون الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون عند أوثانهم فيستجاب لهم أحيانا، كما قد يستجاب لهؤلاء أحيانا، وفي وقتنا هذا عند النصارى من هذا طائفة، فإن كان هذا وحده دليلا على أن الله يرضى ذلك ويحبه، فليطرد الدليل (1). وذلك (2) كفر متناقض.
ثم إنك تجد كثيرا من هؤلاء الذين يستغيثون، عند قبر أو غيره، كل منهم قد اتخذ وثنا أحسن به الظن، وأساء الظن بآخر، وكل منهم يزعم أن وثنه يستجاب عنده، ولا يستجاب عند غيره، فمن المحال إصابتهم جميعا، وموافقة بعضهم دون بعض تحكم، وترجيح بلا مرجح، والتدين بدينهم جميعا جمع بين الأضداد.
فإن أكثر هؤلاء إنما يكون تأثرهم - فيما يزعمون - بقدر إقبالهم على وثنهم، وانصرافهم عن غيره، وموافقتهم جميعا فيما يثبتونه - دون ما ينفونه -، بضعف التأثير على زعمهم، فإن الواحد (3) إذا أحسن الظن بالإجابة عند هذا وهذا، لم يكن تأثره مثل تأثر الحسن (4) الظن بواحد دون آخر. وهذه كلها من خصائص الأوثان.
ثم قد استجيب لبلعم بن باعور (1) في قوم موسى المؤمنين وسلبه الله الإيمان. والمشركون قد يستسقون فيسقون، ويستنصرون فينصرون.
وأما الجواب المفصل فنقول: مدار هذه الشبه على أصلين:
منقول: وهو ما يحكى من فعل هذا الدعاء عن (2) بعض الأعيان.
ومعقول: وهو ما يعتقد من منفعته بالتجارب والأقيسة.
فأما النقل في ذلك: فإما كذب، أو غلط، أو ليس بحجة، بل قد ذكرنا النقل عمن يقتدى به بخلاف ذلك.
وأما المعقول فنقول: عامة المذكور من المنافع كذب، فإن هؤلاء الذين يتحرون الدعاء عند القبور وأمثالهم - إنما يستجاب لهم في النادر. ويدعو الرجل منهم ما شاء الله من دعوات، فيستجاب له في واحدة، ويدعو خلق كثير منهم، فيستجاب للواحد بعد الواحد وأين هذا من الذين يتحرون الدعاء أوقات الأسحار، ويدعون الله في سجودهم وأدبار صلاتهم، وفي بيوت الله؟ فإن هؤلاء إذا ابتهلوا (3) من جنس ابتهال المقابريين (4) لم تكد تسقط لهم دعوة إلا لمانع.
بل الواقع أن الابتهال الذي يفعله المقابريون (1) إذا فعله المخلصون، لم يرد المخلصون إلا نادرا، ولم يستجب للمقابريين (2) إلا نادرا، والمخلصون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل الله له دعوته، أو يدخر (3) له من الخير مثلها، أو يصرف عنه من الشر مثلها، قالوا: يا رسول الله، إذن نكثر. قال: الله أكثر» (4). فهم في دعائهم لا يزالون بخير.
¥