المهم: تحصل له هذه المخاطبات، أو هذه المكاشفات، ثم ينتقل بعد ذلك من هذه الكرامات حتى يصير هو شيخاً، ويمكن أن يبقى مرتبطاً بالشيخ الأول.
والدرجة الخامسة بعد الكرامات، والكشوفات هي:
الشطحات: معناها أنه إذا ذَكَر، أو حضر مجلس ذكر، أو حضر أمامه ناسٌ تظهر على لسانه الكلمات الكفرية الشنيعة جدّاً، ويسمُّونها شطحات، ويعبِّرون بها عن عين الجمع - كما يسمُّونه - ومعنى عين الجمع: اتحادهم بالله!! والعياذ بالله، أو الاستغراق، أو السُّكُر، والحُب، والوجد، أو ما يلبِّسون به على النَّاس بأنَّ هذه الكلمات الكفريات سببها هذا الكلام، ثم إن من يبلغ به الحد إلى الشطحات -كما كان الحلاج وأبو يزيد البسطامي وأمثالهما كل كلامهم شطحات كفرية- يعتبرون أنَّ هذا قد بلغ غاية الولاية، عندما يمشي الحلاج في الشارع -مثلاً- ويدَّعي أنَّه هو الله! ويقول: أنا الحق! وما في الجبة إلا الله! ويسمعه الناس.
يقولون: إن هذه الدرجة: الولاية الكبرى، كما يظنُّ النَّاس الملبَّس عليهم، المحجوبون، المغفلون، وأن هؤلاء مِن عِظَم ولايتهم ترقَّوا في مشاهدة الحقَّ! والفناء فيه، والجمع معه، والالتصاق به، حتى أصبحوا بهذه الدرجة.
هذا الأمر يجعلنا نستعرض بعض كلام لأبي حامد الغزالي، وأنا تعمدت اختيار الغزالي لأنَّه متقدمٌ؛ ولأن كتبه مشهورة، ولأنَّه معروف عند الكثير.
يقول الغزالي في مجموعة رسائله [4/ 25]:
'أول مبادئ السالك: أن يكثر الذكرَ بقلبه، ولسانه بقوة، حتى يسري الذكر في أعضائه، وعروقه، وينتقل الذكر إلى قلبه، فحينئذٍ يسكت لسانه، ويبقى قلبه ذاكراً يقول: "الله، الله" باطناً مع عدم رؤيته لذكره، ثم يسكن قلبه، ويبقى ملاحظاً لمطلوبه، مستغرقاً به، معكوفاً عليه، مشغوفاً إليه، مشاهداً له'.
هذه هي درجة المشاهدة، يذكر الله -كما يزعمون- حتى يصل إلى مرحلة المشاهدة، ولا تعجبوا مِن قوله: "يسكت حتى عن الذكر باللسان"، ثم حتى عن الذكر بالقلب؛ لأنَّ الغزالي في الإحياء، يقول: ' لا ينبغي للمريد في أثناء الخلوة أن يُشغل نفسه، لا بتفكيرٍ، ولا بحديثٍ - يذكر ذلك عن الصوفية لا عن نفسه فقط - ولا بقرآنٍ، ولا بعلمٍ، بل يتفرغ للذكر، فقط "الله، الله " أو: "هو، هو" باللسان، والقلب، والأعضاء، ثم يترك اللسان إلى القلب، ثم يترك القلب فيصل إلى المشاهدة '.
ونتابع كلامه عن المشاهدة يقول: 'ثم يغيب عن نفسه لمشاهدته، ثم يفنى عن كليَّته بكليَّته حتى كأنَّه في حضرة لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]، فحينئذٍ يتجلَّى الحقُّ على قلبه، فيضطرب عند ذلك، ويندهش، ويغلب عليه السُّكُر، وحالة الحضور، والإجلال، والتعظيم، فلا يبقى فيه متَّسعٌ لغير مطلوبه الأعظم- كما قيل: فلا حاجة لأهل الحضور إلى غير شهود عيانه! وقيل في قوله تعالى: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ [البروج:3]- انظروا تفسير الباطنية - قيل: الشاهد: هو الله، والمشهود: هو عكس جمال الحضرة الطلبية فهو الشاهد والمشهود يعني: الله تعالى'.
ثم يقول عن كيفية السير إلى الطريق، أو كيف يبذل الجهد اليسير؟ يقول: 'هناك أنواع:
الأول: تقليل الغذاء بالتدريج، فإنَّ مَددَ الوجود، والنَّفس، والشيطان من الغذاء؛ فإذا قلَّ الغذاء: قلَّ سلطانه'.
أقول: وهذا هو الذي يستعمله سحرة الهند وهي التي تنقلهم إلى مرحلة "المانخوليا"، فإنَّ أيَّ إنسانٍ يجوع لأيامٍ طويلةٍ يُهلوس، ويهوِّس، ويرى مثل هذه الأشياء؛ لكنهم يعتقدون أنها كشوفات إلهيَّة، وتجليات ربانيَّة، والعياذ بالله.
'الثاني: ترك الاختيار، وإفناؤه -أي: يفني نفسه، وينسى نفسه- في اختيار شيخ مأمون ليختار له ما يصلحه فإنَّه - أي: المريد - مثل الطفل، والصبي الذي لم يبلغ مبلغ الرجال، أو السفيه المبذِّر، وكل هؤلاء لابد لهم مِن وصيٍّ، أو وليٍّ، أو قاضٍ، أو سلطان يتولى أمرهم'.
أقول: المريد يكون بمثل هذه الحالة، ولذلك قلت: إن الإنسان يخلع عقله، ويخلع علمه، ويخلع كلَّ شيءٍ عندما يريد أن يدخل إلى عالم الصوفية، يسلِّم كلَّ شيءٍ للشيخ، ولا يعترض عليه بأي شيءٍ.
¥