وكلام العشاق في حال السُّكر يُطوى ولا يحكى، فلما خفَّ عنهم سكرهم، وردوا إلى سلطان العقل الذي هو ميزان الله في أرضه: عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد، بل يشبه الاتحاد' اهـ.
أقول: نحن نقرأ أن بعض الصوفية يقول: إن الحلاج استحق القتل! لماذا؟ يقول: لأنه باح بالسرِّ قبل أن يصل إلى الدرجة العليا، مع العلم أن الحلاج لم يصل إلى حقيقة الاتحاد عندهم! بل رأى عوارض، وبوارق كما يسمونها، فقال: أنا الحق، فهو يستحق القتل في نظرهم لا لزندقته، ولا لدعوى أنه هو الحق؛ لكن يقولون: لأنه لم يصل بعدُ، صرَّح وباح بالسر قبل أن يصل بعد، والغزالي يقول: هؤلاء لم تحصل لهم حقيقة الاتحاد بل هذا يشبه الاتحاد.
ونتابع كلامه، يقول: 'مثل قول العاشق في حال فرض العشق.
أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
وهذا من نداءات الحلاج؛ فلا يبعد أن يفجأ الإنسان مرآةٌ فينظر فيها، ولم ير المرآة قط، فيظن أن الصورة التي رآها في المرآة هي صورة المرآة متحدة بها'
أي: يشبِّه رؤيتهم لله كإنسانٍ ينظر في مرآة فنسي المرآة، وظن أن الصورة التي رآها أمامه هي عين الشيء المرئي بينما هو في الحقيقة مجرد مرآة، ويقول: إن بعض العارفين لم يصل إلى درجة الاتحاد، ولكن يظن أنَّه وصل إليها؛ وإنما هي كالمرآة.
يقول: أو مَن يرى الخمرة في الزجاج فيظن أن الخمرة لون الزجاج فإذا صار ذلك عنده مألوفاً، ورسخ فيه قدمه واستغرقه فيه فقال:
رق الزجاج وراقت الخمر وتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قَدَح وكأنما قدَح ولا خمر
واستشهاد الصوفية بأبيات الخمر، والعشق، والغزل، والنهود، والقدود، والخدود، هذا أمرٌ لا يحتاج إلى تنبيه؛ لأنه دائمٌ عندهم!!
يقول: ' فرقٌ بين أن يقال: الخمر قَدَح، وبين أن يقال: كأنَّه قدح '.
أي: أنَّه فرق أن يقول: رأى الله، أو كأنه رأى الله وتجلَّى له.
ويقول: 'وهذه الحالة إذا غلبت سمِّيت بالإضافة إلى صاحب الحال: [فناء]، بل [فناء الفناء]؛ لأنه فنيَ عن نفسه، وفني عن فنائه؛ فإنه ليس يشعر بنفسه في تلك الحال، ولا بعد شعوره بنفسه، ولو شعر بعدم شعوره بنفسه؛ لكان قد شعر بنفسه، وتُسمَّى هذه الحال بالإضافة إلى المستغرق فيها بلسان المجاز: [اتحاداً] وبلسان الحقيقة: [توحيدا] '.
أقول: هذا هو توحيد الصوفية، وهو هذه الحالة "حالة الاستغراق" التي تسمَّى بالإضافة إلى المستغرق فيها بلسان المجاز [اتحاداً]- كما يقول الغزالي: إنَّه مجاز فقط - وبلسان الحقيقة: [توحيداً]، وليس مجازاً.
يقول: 'ووراء هذه الحقائق أيضاً أسرار لا يجوز الخوض فيها ' اهـ.
يقول: إنه ما يزال هناك أسرارٌ، وأمور لا يجوز الخوض فيها، ولا يجوز ذكرها؛ لأنَّه لو ذكرها هو، أو غيره: ربما كان مصيره مصير الحلاج مِن القتل، ومِن الإعدام.
هذا عرضٌ سريعٌ لهذا الكاتب المتقدم -وهو الغزالي - لدرجات، أو أركان الطريق عند الصوفية ابتداء مِن الشيخ، والخلوة، ثم المشاهدات، ثم المكاشفات، وأخيراً الشطحات!! وبعد ذلك يصبح الإنسان عندهم مِن رجال الغيب.
6 - القطب الأعظم عند الصوفية
رجال الغيب هؤلاء هم -كما يزعمون-: الأولياء وهم الذين يتصرفون في الكون، ويتحكمون في كل صغيرة وكبيرة؛ كما سيأتي في النماذج التي سوف نذكرها عنهم إن شاء الله.
أعظم رجال الغيب عند الصوفية هو: القطب الأعظم، أو قطب الوجود، أو الغوث الأعظم، أو واحد الزمان، وهذه أسماء متقاربة.
هناك حقيقة فلسفيَّة ثابتة، وأكثر الباحثين المعاصرين ذكروها ونقلوها، ومن قبلهم وهي: أنَّ أصل فكرة القطب الأعظم عند الصوفية هي العقل المطلق عند أفلاطون، وأفلاطون كما ذكر سيد قطب -رحمه الله- في خصائص التصور الإسلامي في فصل الواقعية نقلاً عن العقاد -كما أظن- وقد ذكرها في صفحة [166]، والعقاد ذكر ذلك في عقائد المفكرين.
المهم من ذلك أن أفلاطون يقول: 'إن الله كامل، ولا يصدر عنه الشر، والعالم ناقص، والشر فيه كثير، ولا يليق بالكامل أن يفكر في الناقص، ولا يليق بالله أن يكون هذا الشر منه؛ فلابد من تقدير واسطة بين الله والعالم؛ تكون هي المتصرفة في الكون، وهي المفكرة فيه، المشتغلة بأمره، وتكون الشرور، ومصدر الشرور منها، وتكون تفكيرها في هذه الشرور' ولا ننسب هذه الشرور إلى الله بزعمهم.
¥